لا أحد ينكر أن كرة القدم هي الرياضة الشعبية الأولى في العالم العربي، وأنها قادرة على توحيد المشاعر المتناقضة في لحظة واحدة؛ الغضب، الفرح، الحزن، النشوة.
لكنها في الوقت ذاته، قد تكون أكثر الأدوات فعالية لتغييب العقول وصرف الانتباه عن الواقع القاسي؛ ومن هنا تبدأ القصة، حيث يتحول الاستاد إلى ساحرةٍ قادرة على ترويض الشعوب، بينما تُرك الواقع فريسة لاحتلال لا يعرف أي حواجز أخلاقية.
أمس، وبينما كان العالم العربي يتابع باهتمام بالغ مباراة القمة بين الأهلي والزمالك، كان هناك حدث آخر يحدث بعيدًا عن أضواء الكاميرات والشاشات الكبيرة، ولكن الحدث ليس رياضيًا، بل مأساويًا.
ففي الوقت الذي كانت الجماهير المصرية والعربية مشدودة إلى المدرجات والشاشات، تقوم قوات الاحتلال الإسرائيلي بشن هجوم جديد على قطاع غزة، وكأن هذا الهجوم مُنسق مع صفارة بدء المباراة، فبينما يُهدر لاعب ركلة جزاء، كانت قوات الاحتلال تُهدر حياة 150 فلسطينيًا في عملية تدمير وحشية لـ 12 منزلًا.
يبدو أن إسرائيل قد أتقنت فن اختيار التوقيت، فبدلاً من تنفيذ هجماتها في وضح النهار حيث قد يكون الانتباه الدولي مسلطًا عليها، تُفضل استغلال اللحظات التي يكون فيها العالم العربي مشغولًا بصراخ المعلقين وهتافات الجماهير.
نعم، تلك اللحظات التي تكون فيها صراعات الملاعب أكثر إثارة من أي صراع إنساني، هنا يصبح القصف على غزة مجرد خلفية صامتة لمباراة القمة.
إن كرة القدم، تلك اللعبة التي كانت تهدف في البداية إلى الترفيه والمتعة، أصبحت اليوم سلاحًا مزدوجًا؛ إنها تجعل الناس ينسون -ولو لساعات قليلة- مشاكلهم اليومية، لكنها أيضًا أداة تغييب كبرى تُستخدم بشكل غير مباشر للتعمية عن الأحداث الجسيمة.
هل يعقل أن تكون الجماهير جاهزة للاشتعال غضبًا بسبب خسارة فريقهم في مباراة، بينما يُمرر القصف على غزة وكأنه خبر عابر؟ هل أصبحنا حقًا شعوبًا تُحركها كرة على المستطيل الأخضر أكثر مما تُحركها المآسي الحقيقية التي تُدمر حياة أُناس مثلنا؟
في نهاية المباراة، تُسلط الأضواء على التحليلات الفنية واستعراض الفرص الضائعة، لكن في غزة، لا تحليلات ولا إعادة مشاهد القصف؛ الضحايا لا تُعرض وجوههم على الشاشات، والأحداث تمر كأنها غير موجودة، حيث لا محللين ولا معلقين على ما جرى، فقط صمت القبور، وصور للدمار تُنشر لاحقًا دون كثير من الانتباه.
قد يبدو المشهد ساخرًا، لكنه واقعي بشكل مؤلم، مباراة تُلهب قلوب الملايين، بينما صواريخ تُنهي حياة العشرات، ولعل الاحتلال الإسرائيلي قد وجد في مباريات القمة فرصة ذهبية لتمرير أجندته الدموية، فيما يبقى الشعب العربي أسيرًا لدراما المستطيل الأخضر.
إن كان هنالك شيء يمكن تعلمه من هذا السيناريو المتكرر، فهو أننا بحاجة إلى أن نفتح أعيننا على ما يحدث خلف الكواليس، لا فقط على ما يجري داخل الملاعب، فبينما ننتظر صافرة النهاية للمباراة، هناك صافرات إنذار حقيقية تُعلن عن بداية جديدة للموت في غزة.