يوم 25 مايو الماضي كان زميلي خالد البلشي نقيب الصحفيين يجلس في الصف الخلفي لمقعد الرئيس، وعلى مقربة منه يجلس زميلي كرم جبر رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، في معرض افتتاح سيادة الرئيس لعدد من المشروعات القومية، وكعادته في معظم اللقاءات الرئاسية وجه الرئيس رسالة جديدة للإعلام، حين طالب بتناول ما يتم إنجازه في مصر من مشروعات بـ"موضوعية"، ملمحاً إلى ضرورة "التحدث مع الناس في القضايا التي تهمهم".
ومنذ عشر سنوات مضت وبالتحديد يوم 5\8\2014 قال الرئيس خلال كلمته في احتفالية إعلان تدشين محور تنمية قناة السويس، «الزعيم الراحل جمال عبدالناصر كان محظوظًا، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معه».
وخلال السنوات العشر المنقضية بدا للجميع أن الرئيس لا يروق له الأداء الإعلامي للدولة المصرية، فرسائل اللقاءات الرئاسية طيلة هذه السنوات لم تنقطع في كل مناسبة تقريبًا.
والحقيقة أنه ليس الرئيس وحده الذي لا تروق له منظومة الإعلام المصري، فالشعب المصري أيضاً لم يعد يعول كثيراً على الإعلام.. سواء كان الرسمي أو غير الرسمي، وأرقام توزيع الصحف، وأرقام مشاهدة البرامج الإخبارية، والتوعوية على الفضائيات المصرية خير دليل على هذا الإنهيار.. الذي صاحبته خسائر مالية فادحة للمؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة، بل والأكثر ألماً أن حالة اتفاق عام في كل أوساط الإعلاميين تقدر أن الإعلام المصري، مرئيًا ومقروءً ومسموعاً، يعيش حالة من الانهيار التام، ليصبح السؤال الآن كيف حدث ذلك؟
نعم.. كان إعلام عبد الناصر يحرك الوطن العربي من المحيط للخليج، ويتفاعل معه العالم، ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال الشائك، دعني أقول أن رسائل النقد أو العتاب الرئاسي للإعلام المصري طيلة السنوات العشر الماضية، لم تكن موجهة على الإطلاق لزملائي العاملين داخل المنظومة، بقدر ما هي موجهة لتلك الجهات المتعاقبة التي قامت بالإشراف على توجيه شراع السفينة الإعلامية المصرية، وفي كل مرة كان عشرات ومئات من الصحفيين والإعلاميين هم من يدفعون ثمن هذا الفشل غير المسؤولين عنه.. لا من قريب ولا من بعيد!!
باختصار شديد لأن كل قبطان أوكل إليه توجيه السفينة، قام بتوجيهها دون أن يترك للبحارة استخدام أدواتهم الحقيقية وخبراتهم بالإبحار، خاصة وسفينة الإعلام المصري كان مقدراً لها أن تشتبك في واحدة من أعنف معارك البحار الإعلامية، وتعددت السفن التي تحمل أعلام بلدان من الأعداء وأيضاً بلدان صديقة.. وقد وجهوا مدافعهم الإعلامية الثقيلة صوب الدولة المصرية، وهي مدعومة بمليارات مشبوهة، تساقطت من كل حدب وصوب، في نفس ذات اللحظة التي كان هناك داخل مصر.. من ترتعد أوصاله من مجرد مانشيت صحفي يبدو أنه معارض، حتى ولو كان ينطلق من أرضية وطنية.
ولا يروق لى الآن أن أقارن بين إعلام عبد الناصر والسادات وإعلام السنوات العشر الماضية، فتلك الخلفية التاريخية، لن تكون فى صالح البحث عن حلول حقيقية لعودة عصر الريادة المصرية للإعلام - وإن كانت مهمة - ولكن دعني أخبركم أن مرحلة "شيطنة" الصحافة في مصر، دفعت مصر أثمانا غالية لها، وعلى أي حال فقد أثبتت الأيام فشلها الذريع، وليس هناك دليل على هذا أكثر من الأداء الحالي لنقيب صحفيي مصر بخلفيته المعارضة.. وهو الذي لم يقف في صفوف السلطة أبداً.. إلا بعد توليه مقعد نقيب صحفيي مصر، ليشكل ومجلسه نموذجًا للمعارضة الوطنية التي تُعلي من المصالح العليا للأمن القومي المصري على أي خلاف داخلي في وجهات النظر.
نعود للسؤال الرئيسي كيف يمكن إنقاذ الإعلام المصري من هذا الانهيار؟.. والحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج الكثير من العرض ولا تتسع له هذه السطور، ولكن دعني أختصر الأجابة في ثلاث محاور رئيسية لا رابع لها..
- الأول هو "الحرية".. فلا يوجد إعلام بلا حرية، وغبي من يتصور أن نقد سياسة إحدى الوزارات تعني بالضرورة فشل السلطة أو النظام السياسي، وأن مناقشة حرة لقضايا المجتمع قد تسيء لكيان الدولة، وأن صوت الصحافة والإعلام حتى في القضايا الشائكة يمكنه أن ينال من قوة الدولة، بل العكس تماما هو الصحيح، والحقيقة أن إعلام الصوت الواحد لا يقتنع به أحد.. فكيف سأقنع القارئ أو المشاهد بصدقي حين أتحدث عن إنجازات قومية، وهو مدرك تماماً أنني لا أستطيع أن أتناول أزمة المحليات في الأحياء بالنقد، أو أنتقد سياسات الدولة في تجميد انتخابات المحليات، وما ترتب عليه من إشكاليات فساد ملأت كل شوارع مصر؟!
- المحور الثاني هو التمويل ورؤوس الأموال المستثمرة فى الإعلام وماهية إدارتها، كيف يمكن أن تسخر الأقلام والشاشات للحديث عن إنجازات دولة وبطون ابنائهم جائعة، ولا يملكون حتى الإنفاق على جمع المعلومة.. ووصل الأمر لترك قامات إعلامية مهمة عملهم فى الإعلام تماماً للبحث عن "ستر الحياة" لأسرهم.. كيف يمكن أن ينتعش الإعلام وسط حالة من احتكار الصوت الواحد للمؤسسات الإعلامية، والتضيق المالى على المؤسسات الخاصة، لدرجة انهيار منظومة الإعلانات في كافة وسائل الإعلام وهي المورد الرئيسي لتمويل المؤسسات، أضف إلى ذلك أن غياب هامش الحرية، فتح الباب للإعلام الشعبي على منصات التواصل الأجتماعي للدخول كمنافس شرس.. بدون أي معايير لا مهنية ولا أخلاقية، وسط تضييق متعمد على مصادر المعلومات التي كان يمكننا من خلالها منافسة أي منصة، سواء كانت مهنية أو حتى "سوشيال ميديا"، ففي النهاية المعلومة الحقيقية هي من ستنتصر إن وجدت!!
- المحور الأخير هو إدارة المؤسسات الإعلامية ذاتها، والتي سقطت في بئر سحيق يسمى أهل الثقة، وليس على قمة جبل أهل الخبرة، والذين كان يفترض أن توكل لهم فعلياً إدارة دفة السفينة الإعلامية وسط كل هذه الأمواج الداخلية والخارجية العاتية..
والحل بسيط جداً في هذا المحور، لقد عاشت مصر منذ ثورة يناير حالة من الفرز المجتمعي الكامل، والذي طال بالضرورة كل فرد في منظومة الإعلام، وبات معلوماً بشكل دقيق، أنه ليس كل من يفكر بمفرده شيطان، الحقيقة التي باتت واضحة كالشمس، أن في الشوارع الخلفية لمهنة الإعلام صحفيين ومعدين ومقدمي برامج على درجة عالية من الكفاءة، وأغلبهم يحملون الحس الوطني الحر، وحتى المعارضين منهم ينطلقون من أرضية وطنية مخلصة، فالمرتزقة والشياطين من أبناء الإعلام المصرى.. يديرون فعلياً الآن المنظومة الإعلامية المعادية ضد الدولة المصرية.
وأخيراً يمكنني أن أستحضر مشهداً كاشفا لهذا الواقع المرير، يحدث الآن في أروقة نقابة الصحفيين، وهي تستعد لعقد مؤتمرها السادس لإنقاذ هذه المهنة، ولك أن تتخيل أن خلافاً حاداً بين فريقين يدور الآن حول قانون الصحافة المهترئ، والذي سحقته عجلات الزمن، ولم يعد صالحاً لممارسة مهنية حقيقية، حيث سنجد فريقاً يرتعد من فكرة المساس بالقانون.. خشية أن تنتهز الدولة الفرصة وتضع قانوناً معيباً يمتلئ بمعوقات النشر ويتآمر على حرية الصحافة، وفريقا آخر يتحدث عن تعديلات حتمية في القانون الحالي لا بد أن تحدث، على أن تراقبها الجماعة الصحفية.. باختصار هناك "أزمة ثقة" بين الدولة والصحافة والجميع يعلم أسبابها وهذه السطور فى حِلٍ من ذكرها الآن..
من أجل هذا لا بد أن يتم فض هذا الاشتباك الآن.. ليس لصالح السلطة، وليس لصالح الصحافة، ولكن لصالح مصر.. فالمعارك التي تخوضها مصر تحتاج جنود الإعلام فيها دون شك، وأعتقد أنهم على أتم استعداد لدخول المعركة بشكل جماعي ومنظم.. بعد أن خاضوها بشكل فردي طيلة السنوات العشر الماضية.