عرفته منذ طفولتي.. كان طالبًا في كلية العلوم، وكنت في الإعدادية.. أمُّه أقلُّ ما يقال عنها إنها في مصافِّ الملائكة.. رأيت كيف كانت بالدعاء والقرآن يحقق الله على يديها ما يعجز عنه الطب.
ورث عنها عشق القرآن.. حصل على الإجازة في القراءات.. منحها لقُرَّاء مشاهير.. أمَّ المصلين في الحرم الشريف أثناء زيارته للأرض التي وُلِد فيها وعاش نبي الرحمة.. سافر إلى بلاد عربية وأجنبية.. كانوا يستقبلونه استقبال الملوك.. جمع بين عذوبة الصوت وتمكُّن العلم.
وجهه المشع نورًا يسحرك، فتجده أقرب إليك من أهلك.. ظاهره كباطنه.. روحه الشفافة محلقة في أعلى عليين، ورأسه محني يلاصق الأرض.. رغم مكانته وفارق السن لم أرَه يوما يرفع عينه تجاهي.. ذهنه حاضر في أدق أمور الشريعة.. مكتبة مفهرسة ومرتبة بمنهجية عجيبة.. تشعبات تسري في مساراتها ليقدمها بسلالة كوضح النهار.. إن تختلف معه في الرأي يبسط لك جناحه، ولا تتزحزح البسمة الملازمة لوجهه.. من لا يعرفه يخاله سطحيًّا، فإذا ما خاض معه ارتوى من فيوض علمه التي لا تنفد.
البساطة في أبهى صورها.. بساطة العظمة والسمو والتشبع.
فطرة مجسدة.. الغضب والعداء والتعالي ووووو.. كلمات أعجمية عن قاموسه النفسي.
سألته: ما المقابل المُجدِي لقارئ القرآن، فأجاب بتلقائية "إن حمل القرآن شرف لا يضاهيه كنوز الأرض".
في أي وقت من ليل أو نهار أسافر فيه لزيارة أهلي بالزقازيق يلغي ارتباطاته ليجالسني.. فنتحاور في الشريعة.. نتبادل الضحكات.. نغسل قلوبنا مما قد يكون ران عليها.. يصغي إلى همومي بروحه وقلبه وكل كيانه.. لم ينطق لسانه قَطُّ بشكوى أو ضجر أو حتى إرهاق.
كلما أتى إلى القاهرة في أي يوم من أيام الجمعة أهلَّ عليَّ قمره الوضَّاء؛ ليشبع بيتنا بزكاء نفسه وعبق روحه.
موعدنا غدًا الجمعة.. وسيأتي غدًا الجمعة.. سيأتي لكن بدونه.. فأول أمس لحقت روح الشيخ أحمد الفلاح بركب المُتوَّجين بتاج الوقار من حملة القرآن، وهذه شهادتي له أمام الله عز وجل.