الوطن حضن ودفء وأمان أحاسيس لا يشعر بها إلا العاشق لتراب بلده، الأصيل الذي يضحى بكل ما هو عزيز وغالي فداء لحماية ترابه قبل أشخاصه.
فا دفء الوطن يشبه حضن وأمان الأم الذي إذا شردنا عنه نصاب بالرعب والفزع والخوف من المصير المحتوم.
ولكن لن يشعر بتلك المشاعر سوا صاحب الضمير الحي العاشق لبلده، أما من مات ضميره أصبح بلا مشاعر أو إنسانية ويصبح بلا هويه يبحث عن المال أو أهوائه فقط وعلى استعداد بالتضحية بكل ماهو نفيس وغالي لتحقيق أهوائه حتى لو وصل به الحال لبيع بلده وأهله.
وهذا ما رايناه في بعض الشخصيات التي قررت أن تتخلى عن وطنيتها واتباع أهواء الشيطان الغوص في بئر الجاسوسية التي تحولهم إلى أفاعي سامة تسعى لنشر سمها داخل تراب الوطن لحصد أرواح خيرة شبابها.
وهذا ما فعلته انشراح موسى التي جسدت شخصيتها الفنانة إسعاد يونس في مسلسل السقوط في بئر سبع، التي سقطت في بئر الخيانة لبلدها وزوجها وأبنائها.
فا حب الجواسيس كحب الأفاعي مدمر وعجيب فالجاسوس عندما يعشق امرأة يبث فيها سمومه رويداً رويداً فتموت أو قد تنقلب مثله إلى أفعى سامة عندئذ تكون سمومه مصلاً واقياً يقيها خطره الفتاك فتتوحش وتقوى لديها روح المغامرة وتقامر بحياتها لمرة واحدة فقط.
والمرأة عندما تعشق جاسوساً فإن حبها له قد يحوله أحياناً من ثعبان قاتل الى قط أليف لا يستخدم مخالبه وربما منحه الثقة ليعمل بفاعلية أكثر تدعوها الى مشاركته والدخول معه إلى وكر الجواسيس.
فالحبيبة التي صارت حية رقطاء تضحي تأكيداً لحبها بكل ثمين في سبيل حبيبها، وفي عالم الجاسوسية من باعت الوطن في سبيل الحب . ماعز عليها بيع أولادها أو قذفهم الى وكر الثعابين.
إنشراح موسى
في مدينة المنيا ولدت انشراح علي موسى عام 1937 لأسرة متوسطة الحال وبرغم التقاليد المتزمتة في ذلك الوقت دخلت الفتاة الصعيدية المدرسة وواصلت تعليمها حتى حصلت على الشهادة الاعدادية عام 1951.
وبعد نجاحها بأيام قليلة أراد والدها مكافأتها فاصطحبها معه الى القاهرة لحضور حفل عرس أحد أقاربه.
كانت انشراح ذات وجه مليح وعينان نجلاوان وجسد دبت به معالم الأنوثة وخرطته خرطاً فبدت أكبر كثيراً من سنها مما لفت الأنظار اليها واخترقتها سهام الباحثين عن الجمال، فكانت تقابل تلك النظرات بحياء فطري غلف ملامحها مما أزادها جمالاً فوق جمال.
وفي حفل العرس اصطدمت نظراتها البريئة بنظراته فتملكها الخجل وتوردت خدودها للسلع لذيذ أحست به يجتاح مشاعرها فيوقظها من رقدتها معلناً عن مولد مشاعر جديدة غزت عقلها وقلبها لأول مرة.
كان فتاها الذي حرك فيها دماء الأنثى هو إبراهيم سعيد شاهين ابن العريش المولود عام 1929، الذي ما غادر الحفل إلا وعرف عنها كل شيء. وبعد أيام قلائل فوجئت به يطرق باب بيتها في المنيا برفقته والده لطلبها للزواج، الذي واجه رفض من والدتها بسبب بعد المسافة، ولكن انتصرت إنشراح وحققت رغبتها بالزواج من العريس المتقدم
وفي حفل أكثر من رائع انتقلت انشراح الى بيت الزوجية في العريش مع زوجها الذي كان يعمل كاتب حسابات بمكتب مديرية العمل بالعريش.
وفي أواخر عام 1955 زرقا بمولودهما الأول "نبيل" ثم جاء المولود الثاني محمد عام 1956، ثم عادل في 1958، وفي عام 1963 قاموا بإرسال أولادهما إلى عمهم بالقاهرة ليواصلوا الدراسة هناك ويعيشوا حياة رغدة بعيداً عن مظاهرة البداوة وظروف الحياة الأقل حظاً من العاصمة، وفي أكتوبر 1966 ضبط إبراهيم يتلقى الرشوة وحبس ثلاثة أشهرو خرج بعدها ليكتشف مدى قسوة الظروف التي تمر به والمعاناة الشديدة في السعي نحو تحقيق آماله في الارتقاء والثراء.
وذات يوم من أيام التاريخ اجتاحت إسرائيل سيناء واحتلتها في يونيو 1967 وأغلقت فجأة أبواب السبل أمام السفر الى القاهرة فتأزمت انشراح نفسياً قلقاً على أولادها، وكانت كلما نامت تراهم في المنام يستغيثون بها فتصرخ وتستيقظ وتظل انشراح تبكي معظم الليل والنهار.
وسط هذا المناخ كانت المخابرات الاسرائيلية تعمل بنشاط زائد وتسعى لتصيد العملاء بسبب الضغوط المعيشية الصعبة وظروف الاحتلال الفجائي لسيناء وقع على سكانها كالصاعقة، فاختنقت نفوس الأهالي برغم اتساع مساحات الأرض والجبال ولكونهم ذوي تقاليد بدوية ومحبين للحركة والتجوال والتنقل، أحسوا بثقل الأمر ولم يطيقونه.
لكن الظروف التي وضعوا فيها اضطرتهم الى محاولة تحملها لثقتهم أنها أزمة لن تطول لكن ما كان يحز في نفوسهم هو تضييق الخناق عليهم في المعيشة والتنقل فكانت التصاريح التي يمنحها الحاكم العسكري الإسرائيلي لا تتم بسهولة.
وأصبح السفر الى القاهرة يحتاج لمعجزة من السماء فالتعنت في منح التصاريح بلغ منتهاه واشتدت عضات الغضب في الصدور إلى جانب آلام الجوع التي تنهش الأبدان وتجتث الصبر والقوة.
بداية الخيانة للوطن
بعد أن ضاق الحال بـ إبراهيم وانشراح في العريش وخلا البيت من الطعام والشراب، قرر الزوج الذهاب إلى مكتب الحاكم العسكري يطلب تصريحاً له ولزوجته بالسفر الى القاهرة.
ولما ماطلوه كثيراً بوعود كاذبة صرخ في وجه الضابط الاسرائيلي قائلاً إنه فقد عمله ودخله ولا يملك قوت يومه فطمأنه الضابط "أبو نعيم" ووعده بالنظر في أمر التصريح في أسرع وقت، وبعد حديث طويل بينهما حاول ابراهيم خلاله التقرب اليه لإنجاز التصريح.
وخلال هذه الأحداث شعر الضابط الإسرائيلي أنه عثر على كنز وقرر أن يجند "ابراهيم" لإسرائيل وبدأت بالتقرب له واعطائه الكثير من الدقيق والشاي والسكر وبدأ يتودد له في منزله.
وذات يوم قرر الضابط الإسرائيلي أن يمنح انشراح وزوجها تصريح السفر للقاهرة ولكن هذة الموافقة مغلفة بشرط، وهذا الشرط كان أول شرارة للحياة الجديدة وسط بئر الخيانة.
فا كان شرط الضابط أن يأتيه إبراهيم وزوجته بأسعار الفاكهة والخضروات في مصر والحالة الاقتصادية للبلد بواسطة أخيه الذي يعمل بالاستيراد والتصدير.
وكان هذا بمثابة اختبار للزوجين ونجح في أول امتحان لهم، ومن هنا بدأت عملية التجنديد والذهاب لبئر سبع لتلقي الأوامر، وبدأت رحلة الجاسوسية لإنشراح التي غيرت إسمها إلى "دينا" .
وبدأت تغوص مع زوجها في نعيم الجاسوسية على بلدهم ونقل الأخبار لقوات الإحتلال، ثم وقعت إنشراح في علاقة مع ضابط من رجال الموساد، وذات يوم قررت العودة لمصر ، إذ عادت لمطار القاهرة في 24 أغسطس عام 1974، من رحلتها في روما، وفوجئت برجال المخابرات المصرية في انتظارها في بيتها للقبض عليها.
حيث استطاعت المخابرات المصرية أن تكشفها عن طريق الذبذات التي صدرت عن الأجهزة التي استخدمتها هي وزوجها لإرسال المعلومات لإسرائيل.
ىصدر حكمًا في مصر بإعدام إنشراح موسى وزوجها إبراهيم سعيد شاهين شنقا، والسجن 5 سنوات لنجلها الأكبر نبيل، والتحفظ على نجليها محمد وعادل لمحكمة الأحداث في 25 نوفمبر 1974.
و نفذ حكم الإعدام في إبراهيم شاهين شنقا، لكن بسبب عملية تبادل الأسرى بين مصر وإسرائيل، أُفرج عن إنشراح وابنها بعد ثلاث سنوات من السجن، وتقرر العفو عنها وبعد أن قالت في وسائل الإعلام أنها شعرت بالخطأ وندمت ولكن لم تشفى من اختلاط دم الخيانة بدمها وقررت الجاسوسة السفر إلى إسرائيل، والاستقرار هناك.
وفي عام 1989 نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية خبرا عن موسى وأبنائها، يفيد بتغييرهم أسمائهم لأسماء عبرية واعتنقوا الديانة اليهودية، ومن ثم تدهور بها الحال فأصبحت تعمل في دورة مياه للسيدات بمدينة حيفا "لكنها ترغب بشدة في العودة مجددا للعمل كجاسوسة لإسرائيل في مصر"، وبحسب التقرير، كما عمل نجلها كحارس ليلي بأحد المصانع، أما الابن الأكبر فلم يتحمل الحياة في إسرائيل وهاجر هو وزوجته اليهودية لكندا، حيث عملا بتنظيف الملابس، بحسب ما نقلته جريدة الأخبار.
وذكرت وسائل الإعلام أنها توفيت نتيجة إصابتها بالاكتئاب لفترة طويلة.