من الأراضي الوعرة في جنوب أفغانستان في هلمند وقندهار إلى الحدود الشمالية للبلاد مع طاجيكستان، تواصل حركة طالبان في زحفها، حيث استولت من خلاله الجماعة الإرهابية ومقاتلوها الجهاديون على مساحات شاسعة من المناطق الريفية النائية مما أوصلهم إلى عتبة مدن رئيسية مثل هرات وكابول، حيث أثبتت حركة طالبان الإسلامية المسلحة أنها قوة قتالية هائلة في أفغانستان وتهديد خطير لحكومتها، وذلك بعد أيام من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
ولا تزال تهيمن على المجتمع الدولي حالة من الدهشة والترقب بشأن ما ستؤول إليه التطورات، وبينما يرى البعض بأن المتغيرات الراهنة تمثل استراتيجية أمريكية مقصودة لخلق بؤرة توتر جديدة بالقرب من روسيا والصين، غير أن الموقف الأمريكي أفرز انتقادات حادة لواشنطن بما في ذلك حلفائها من الدول الأوروبية، خاصةً وأن هناك رأي آخر يرى بأن المعطيات الراهنة التي تمخضت عن الانسحاب الأمريكي ربما يعزز من النفوذ الروسي (وكذلك الصيني) في المنطقة، ويكرس في المقابل فشل الالتزام العسكري لحلف الناتو في أفغانستان والذي أستمر لنحو 20 عاماً.
وفي هذا الصدد نشر مركز “رع” للدراسات الاستراتيجية، تقريرًا للباحث السياسي عدنان موسى، بعنوان "ترقب حذر: هل تصبح روسيا الرابح من سيطرة طالبان على كابل؟ ناقش- من وجهة نظر كاتبه السيناريوهات المحتملة للموقف الروسي من الأزمة الراهنة في أفغانستان، والمسارات المحتملة للتحرك الروسي في التعاطي مع حركة طالبان.
إعادة ترتيب الأوراق:
وقعت الولايات المتحدة الأمريكية لاتفاقية “الدوحة” مع حركة طالبان في فبراير 2020 والتي بموجبها تم الاتفاق بين الطرفين على خروج القوات الأمريكية من أفغانستان بعد نحو 20 عاماً من دخول كابل في 2001، وذلك مقابل تعهد الحركة بعدم استخدام الأراضي الأفغانية كنقطة انطلاق لأي هجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها.
ومنذ ذلك الوقت بدأت كل من روسيا والصين تعيد ترتيب أوراقهما – بشكل مكثف- في الملف الأفغاني وعلاقتهما بتنظيم طالبان، وذلك تمهيداً لتعزيز الانخراط في المشهد، بعدما عجزت موسكو (وبيكين) خلال السنوات الماضية عن إيجاد موطئ قدم لها في كابل، وذلك في ظل التواجد الأمريكي الذي قطع الطريق أمامها، وفي هذا السياق، سارعت روسيا منذ مارس 2021 إلى التمهيد للانخراط في أفغانستان، وذلك عبر رعايتها لمحادثات سلام بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية.
حذر وشماتة:
نشرت مجلة “فورين بوليسي” Foreign Policy تقريراً لمراسلة الأمن القومي والاستخبارات بالمجلة “إيمي ماكينون” Amy Mackinnon بشأن التطورات الراهنة في أفغانستان، حيث ألمح التقرير إلى أن ثمة حالة من “الحذر والشماتة” تهيمن على الموقف الروسي بشأن الانسحاب الأمريكي من كابل، مشيرةً إلى أن موسكو رحبت من خلال وزير خارجيتها “سيرجي لافروف” بإمكانية تشكيل طالبان لحكومة جديدة خلال الفترة المقبلة، وأنه في الوقت الذي قامت فيه واشنطن وكثير من الدول الأخرى بإجلاء سفاراتها من أفغانستان، احتفظت روسيا بسفارتها تحت حماية حركة طالبان، كما عقد السفير الروسي في أفغانستان “ديمتري جيرنوف” اجتماعاً مع ممثلي حركة طالبان، حصلت موسكو من خلاله على ضمانات بشأن أمن السفارة الروسية، فضلاً عن تأكيدات بأن الحركة لن تستهدف مصالح موسكو في آسيا الوسطى والمنطقة ككل.
كذلك، أشار تقرير “الفورين بوليسي” أن روسيا كانت قد صنفت حركة طالبان كمنظمة إرهابية في عام 2000، وذلك عندما دعت الحركة إلى “حرب مقدسة” في جمهورية الشيشان واعترفت باستقلال الأخيرة وسمحت للانفصاليين الشيشان بالتدريب على أرضها وذلك رداً على الحملة الروسية لمكافحة الإرهاب في المنطقة، بيد أن موسكو أعادت تقييم سياساتها بشأن طالبان، خاصةً بعد ظهور تنظيم “داعش” الإرهابي وأتساع رقعة انتشاره مما جعل روسيا تنظر إلى طالبان باعتبارها أقل الخطرين، وتحاول عقد صفقات معها تضمن مصالح الكرملين خاصةً فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب، كما شرعت موسكو في الدخول في حوار مع الحركة فضلاً عن تحليل الهوية الحالية لطالبان ومدى الاختلافات عما كان عليه التنظيم في 2001.
مباحثات مبكرة:
بالتالي، يمكن الإشارة إلى أن روسيا عمدت خلال الأشهر الأخيرة إلى تكثيف تواصلها وتنسيقها مع طالبان، بيد أن موسكو كانت قد بدأت في مباحثاتها مع حركة طالبان منذ عدة سنوات في محاولة لتبني إستراتيجية برجماتية تحقق مصالح موسكو، خاصة وأن التواجد الأمريكي مثل قيوداً على توسع النفوذ الروسي في آسيا الوسطي، في ظل الحدود الطويلة للأخيرة مع أفغانستان، فضلاً انزعاج موسكو من الحكومة الأفغانية (التي فرت بعد سقوط كابل) بسبب موالاتها لواشنطن.
وفي هذا الإطار، أشار تقرير صادر عن “مركز تحليل السياسة الأوروبية” the Center for European Policy Analysis أن بوادر الاتصالات بين روسيا وحركة طالبان يمكن إرجاعها إلى عام 2007 عندما بدأت العلاقات بين الغرب وموسكو تشهد حالة من التوتر، قبل أن تعين روسيا مبعوثاً خاصاً لها في أفغانستان عام 2011 هو “زامير كابولوف” والذي كان قد تفاوض في فترات سابقة مع زعيم طالبان الأسبق “الملا عمر”، وفي عام 2015 بدأت روسيا في تبادل المعلومات الاستخباراتية مع طالبان بشأن تنظيم “داعش” الإرهابي، كما ألمح التقرير بأن موسكو بدأت في عام 2018 بإمداد الحركة بالأسلحة مع تسهيل المحادثات مع السياسيين الأفغان المعارضين مما زاد من تقويض سلطة الرئيس “أشرف غني”.
بالتالي، فقد فضل الكرملين الدخول في حوار مع حركة طالبان في وقت مبكر، وقد تمخض عنه ترتيبات وتفاهمات بين الجانبين تعزز النفوذ الروسي، ولعل هذا ما أنعكس في اللقاء غير المعلن الذي أشارت إليه صحيفة “صنداي تايمز” في 2015 والذي جمع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتن” وزعيم حركة طالبان “الملا أختر منصور”.
رؤى مختلفة:
فعلياً، يبدو أن ثمة اختلافات جوهرية بشأن مدى استفادة روسيا من الوضع الراهن في أفغانستان، وقد أنعكس هذا التباين في التقارير الدولية التي تناولت أبعاد وتداعيات سيطرة طالبان على كابل بعد انسحاب واشنطن. فمن ناحية، هناك بعض الآراء ترجح بأن الانسحاب الأمريكي جاء بشكل مقصود لخلق بؤرة توتر جديدة في المحيط الإقليمي لمنافسيها الرئيسيين روسيا (والصين)، لعرقلة التقدم المضطرد لهما نحو قمة النظام الدولي، وذلك على غرار تجربة أفغانستان في نهاية حقبة الإتحاد السوفيتي.
ومن ناحية أخرى، هناك رأي آخر يرى بأن التطور الأخيرة في العاصمة الأفغانية كابل ستخدم مصالح بعض الأطراف الإقليميين، بينما ستمثل تحدياً بالنسبة للبعض الآخر، فيما ستشكل خسارة مباشرة لأطراف أخرى، ويرى أنصار هذا الرأي أن روسيا تمثل أحد أبرز أطراف الفريق الأول الرابح والذين ستخدم الأحداث الراهنة مصالحهم، وذلك عبر اعتبار طالبان بمثابة “شرطي موسكو” الذي يتم من خلاله مواجهة التنظيمات الإرهابية فضلاً عن إيجاد حل لمعضلة نبتة “الأفيون” التي تنتجها أفغانستان وتورد كميات كبيرة منها إلى الداخل الروسي، حيث يتم من خلالها إنتاج المخدرات والتي تشكل تهديداً كبيراً للمجتمع الروسي، ويستند أنصار هذا الرأي باللقاءات المتكررة بين الطرفين خلال الأشهر الأخيرة، فضلاً عن التصريحات التي صدرت عن المسئولين الروس بعد سقوط العاصمة كابل والتي عكست ترحيباً ضمنياً من قبل موسكو بسيطرة طالبان على عكس المخاوف الغربية، لكن في حاصل القول يبدو أن حسابات واشنطن أخطأت بدرجة كبيرة في الإعتماد على استراتيجية تقليدية تجاوزها الزمن في مواجهتها مع منافسيها الدوليين، ومن ثم فمن المرجح أن تمثل التطورات الراهنة فرصةً قوية أمام تصاعد النفوذ الروسي في المنطقة بعد الفراغ الذي نتج عن الانسحاب الأمريكي، وربما تتزايد مكاسب موسكو حال استمرار تنسيقها مع بكين وعدم تحول التنافس بينهما إلى عامل مقوض لنفوذهما بشكل عكسي، لكن من ناحية أخرى يجب الأخذ في الاعتبار وجود مخاوف روسية من احتمالات أن تنطوي هيمنة طالبان على بعض المخاطر بالنسبة لموسكو، خاصةً فيما يتعلق بتأجيج الأوضاع في آسيا الوسطى عبر تدعيم الحركات المناهضة للهيمنة الروسية في المنطقة، بيد أن هذه المخاطر ربما تتمخض على المدى البعيد بعد ترسيخ طالبان لهيمنتها على الداخل الأفغاني.
تجنب الانخراط المباشر:
في الواقع، ترجح غالبية الدراسات أن موسكو لن يكون لديها مصالح استراتيجية تجعلها متحفزة للانخراط المباشرة في الأزمة الأفغانية، وذلك على عكس الأزمات الإقليمية الأخرى – على غرار سوريا وليبيا- والتي تغلغلت موسكو فيها لدعم حلفائها هناك وإيجاد موطئ قدم لها، حيث ترتكز المصالح الروسية على ضمان الاستقرار في كابل وعدم تمدد الجماعات الإرهابية إلى الداخل الروسي أو إلى مناطق نفوذها في آسيا الوسطي.
كذلك، تشير بعض الدراسات إلى أن سيطرة حركة طالبان على السلطة في أفغانستان ستعيد رسم خريطة آسيا الجيوسياسية، بما يمنح روسيا (وكذلك الصين) فرصة لإبراز قواتهما في المنطقة، وأن موسكو تستعد الآن لموقف أكثر نشاطاً، لكن تلمح هذه الدراسات أيضاً بأن التحركات الروسية ستعتمد بشكل رئيسي على التنسيق مع الصين فيما يتعلق بترتيبات الأوضاع في كابل.
لكن، يرى البعض بأن روسيا ليس لديها تصور شامل في الوقت الراهن بشأن صياغات المشهد الأفغاني خلال المرحلة المقبلة، وكيفية التعاطي الروسي مع المعطيات الراهنة، ومن ثم فهناك حالة من الترقب الحذر من قبل روسيا تجاه تطورات الأوضاع في كابل، لكن يبقى عنصر الاتفاق الرئيسي هو أن موسكو سوف تستفد من تجربتها المؤلمة في أفغانستان في الفترة 1979-1989، ومن ثم تجنب أي انخراط مباشر في الداخل الأفغاني، لكنها ستعمد إلى تعزيز تواجدها العسكري في محيطها المتاخم لكابول، وذلك لضمان هيمنتها العسكرية على المنطقة.
ماذا بعد؟:
يرجح أن تعتمد روسيا على التطورات الراهنة للترويج لفكرتها التقليدية والتي مفادها أن الولايات المتحدة يعد حليفاً “غير موثوق فيه”، وفي هذا السياق ربما تعتمد موسكو على ذلك في تعزيز هيمنتها على منطقة آسيا الوسطى باعتبارها الفاعل الرئيسي القادر على حفظ الأمن والاستقرار لبلدان هذه المنطقة، وربما يفسر ذلك التحركات الروسية الأخيرة لتعزيز تواجدها العسكري في قاعدتها الرئيسية في طاجيكستان المتاخمة للحدود الأفغانية، فضلاً عن إجراء نحو 2500 جندي من روسيا وطاجيكستان وأوزبكستان لتدريبات عسكرية مشتركة لصد أي تهديدات محتملة، وذلك إلى جانب المناورات العسكرية التي نفذها موسكو مع بكين في الفترة الأخيرة.
من ناحية أخرى، يمثل التنسيق الروسي- الصيني أحد أبرز المحددات التي ستكون حاسمة في رسم ملامح التطورات المقبلة في كابل، خاصةً وأن هناك مصلحة مشتركة للجانبين تتمثل في محاولة ضمان الاستقرار في أفغانستان وتجنب أي تهديدات أمنية محتملة تتمخض عن الأزمة الراهنة، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن هذا التنسيق المحتمل لا ينفي وجود درجة من التنافس الاقتصادي والجيواستراتيجي بين البلدين في كابل، بيد أن احتمالات التعاون تبدو أكبر من محفزات التنافس بين موسكو وبيكين، وذلك لاختلاف الأهداف الاقتصادية لكل منهما في أفغانستان، حيث تتمثل أهمية الأخيرة بالنسبة للصين في المخزون الهائل غير المستغل من النحاس، فضلاً عن أهمية كابل في مشروع طريق الحرير الصيني، فيما ترتكز مصالح روسيا الاقتصادية في مصادر الطاقة ومشروعات إعادة الإعمار.
وفيما يتعلق باحتمالات إقدام روسيا على الاعتراف بـ “طالبان” ورفعها من قوائم الإرهاب، فمن المرجح أن تلجأ موسكو إلى تأجيل هذه الخطوة، والعمل على الانتظار والترقب الحذر لسلوكيات الحركة خلال الفترة المقبلة، مع محاولة تكثيف الاتصالات مع الحركة والعمل على تخفيف حدة التخوفات الدولية من المعطيات الراهنة في أفغانستان، والترويج لفكرة تغير النمط التقليدي القديم لحركة طالبان، ولعل هذا ما تعكسه التصريحات الروسية بأن الولايات المتحدة هي المسئولة عن تقديم مقترح لمجلس الأمن لإدراج طالبان على قوائم الإرهاب.
في النهاية، لا تزال الترتيبات الإقليمية التي ستعقب سيطرة طالبان على الدولة الأفغانية غير واضحة المعالم بشكل كامل، إلا أن المرجح هو تجنب موسكو لأي تدخل مباشر في أفغانستان وتجنب إرسال أي قوى عسكرية إلى كابل، لكن هذا لا يعني استبعاد فكرة التوصل إلى اتفاقات مع طالبان في وقت لاحق لإنشاء قاعدة روسية في أفغانستان لضمان مصالحها والتعاون في مواجهة الجماعات الإرهابية. كذلك، يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة ارتفاعا ملحوظاً في زخم التعاون العسكري والتنسيق بين موسكو ودول آسيا الوسطى في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي (التي تضم روسيا، وأرمينيا، وبيلاروسيا، وطاجكستان، وقيرغيزستان، وكازخستان) إلى جانب تعزيز التواجد في القواعد العسكرية في هذه الدول، أخيراً يتوقع أن تسعى موسكو لتعزيز تعاونها مع الصين لتنسيق تحركاتهما إزاء التطورات الراهنة، وذلك لضمان تعزيز النفوذ الروسي وتجنب أي صدامات في المصالح بينهما، خاصةً في ظل احتمالات انخراط أطراف إقليمية أخرى في الأزمة، لعل أبرزها تركيا التي ستسعى إلى التغلغل في الملف الأفغاني باعتبارها وكيل عن واشنطن لتعزيز دورها الإقليمي، ومن ثم ستسعى روسيا لتجنب ظهور منافسين إقليميين ربما يؤثر على نفوذها هناك.