كعصفور صغير خرج لتوه من قفص ظل حبيسه سبعة عشر عامًا، لا يخرج كغيره من أقرانه، فدائما كان برفقة أحدهم، يلازمه أينما حل، كظل وقت الظهيرة، يتذكر جيدًا تلك اللحظة التى انطلق فيها خارج "القفص"، بصعوبة أخرج قدمه من السيارة، وقف برهة ليسجل تلك اللحظة، أغمض عينيه، ثم أخذ جولة متأنية للمكان، ذلك المبنى الذى طالما حلم به، ثم سحب نفسًا عميقًا كأنه يستنشق عبير الحرية، قاوم النظرات، حاول التغلب عليها، وأعلن انفتاحه على العالم من باب "الجامعة"، أخذ خطوات واثقة يعتريها بعض القلق، انطلق للأمام بفرحة، سجل كل تلك اللحظات فى ذاكرته، خاصة تلك اللحظة التى تعد بداية احتكاكه الحقيقى بالعالم.
يتذكر جيدًا تلك اللحظة التى وقف فيها، فخطوته الأولى لم تكن كغيره من الأطفال، فبدلًا من العام الأول أضاف إليها 10 أعوام أخرى، ليبدأ رحلة التحدى، لتلك القدم التى أصابها القصر، وتلك اليد التى أصابها العجز، ليبدأ رحلته صعودًا إلى النجاح واضعًا العقبات والصعوبات سلمًا ليصل إلى ما يريد.
"منصور أحمد بصيلة"، كان حلمه أن يثبت للعالم أجمع ولنفسه أولًا أنه مختلف عن سائر أقرانه، ليس فقط فى إصابته بل فى طريقة تفكيره، فلقد كان يوم ولادته عاديًا، فمشاعر الفرحة بقدوم المولود الجديد، امتزجت بمشاعر القلق والحزن، التى لم تكن فى الحسبان، فهو صبى جاء بعد فتاتين، فرحة انتظرها أبواه طوال تسعة أعوام، ولكنه جاء بإعاقة فى اليدين، وبقدم أصغر من أخرى.
لحظة الولادة
"اتولدت سنة 1992 بظروف إعاقة فى يدى الاثنين فيهما نوع من أنواع الشلل وساق أقصر من الأخرى"، يبدأ "منصور" فى سرد قصته، وكيف أن خطوته الأولى كانت فى عامه الحادى عشر، بعد أن أجرى 11 عملية، 6 منها فى يده، و5 أخرى فى قدمه، يساعده والداه حتى تمكن من المشى بعد عامين، يقف ويقع، ولكنه لم يستسلم.
صدمة "الوالدين"
يجلس فوق كرسى مكتبه ويتابع "كانت صدمة للوالدين يوم ولدت، وعرضا حالتى على دكاترة مختصيين فى جامعة عين شمس وأكدوا صعوبة الموضوع، وبعد 4 سنوات تم عرضى على دكتور آخر، قال "ممكن يعمل فى الرجل تطويل وفى الإيد تقوية أعصاب، ومن هنا بدأ الأمل يتفتح أمام والدى، إلى أن أكرمنى الله بطبيب أحب أن أذكر اسمه وهو "محمد مذيد"، قال إنى ممكن أقدر أقف عن طريق جهاز تعويضى فى الرجل اليمنى يعوض النقص فى الرجل الأخرى وبالنسبة لأيدى عملت أكثر من عملية لحد ما قدرت أستخدمها شوية".
يتذكر "منصور" البدايات وكيف عانت والدته مع نظرات المجتمع، تلك النظرات التى تنطلق من العيون دون أن تدرى ما تفعل فى صاحبها، يضيف "طبعا بدأت تواجه والدتى مصاعب الحياة ونظرة المجتمع إن اللى زى ده يقعد فى البيت وميخرجش لأن حياته مكتوب عليها الفشل، وكنت بحس بده فى عيون والدى ووالدتى لما كبرت شوية، بس كل ده إدانى طاقة إيجابية، حسيت إن أنا مختلف وساعتها قولت لنفسى لازم أثبت قدام المجتمع اللى حاول يضطهدنى كأنى حاجة نكرة وبالفعل واحدة واحدة بدأت أكمل وأحاول أنجح فى الموضوع".
دخول المدرسة
أولى صعوبات الحياة التى واجهها الصغير، كانت مع بلوغه سن المدرسة، وذلك الخلاف الذى نشب بين والديه هل سيدخل المدرسة أم لا، فى البداية رفض والده خوفًا عليه من نظرات أقرانه وما سيقولونه بما قد ينعكس سلبًا على نفسيته، ولكن "الأم" كان لها رأى آخر وأصرت على دخوله المدرسة، لتبدأ قصة "الكفاح" من الابتدائى.
11 عملية جراحية
الاعتماد على النفس كان هدفه الأول، فبعد أن خضع لـ11 عملية، بدأ فى محاولة الاعتماد على النفس فى المأكل والمشرب والملبس وقضاء الحاجة، يضيف "طبعا واجهت صعوبات كتير فى الموضوع ولكن بالإرادة ومشيئة الله ووقوف والدتى ووالدى جنبى وتوفير كل حاجة ليا بدأت فعلا الطاقة الإيجابية تطلع وأعتمد على نفسى فى حاجات كتير وعملت جهاز تعويضى فى رجلى ساعدنى أمشى".
يتابع "التحقت بالمدرسة بنظام المنازل، وأمى كانت المدرسة بالنسبة لى كانت بتدينى الدروس وتذاكرلى، وكانت بتساعدنى فى كل كبيرة وصغيرة فى حياتى من أول اللبس بعد كدة كنت بخش الامتحان فى لجنة خاصة بمرافق علشان مكنتش فى البداية بعرف أمسك القلم أو إنى أكتب بسرعة فكان بيكون معايا مرافق أصغر منى أمليه يكتب".
بعد أن حصل على 85% فى الثانوية العامة، التحق "منصور" بكلية الآداب قسم التاريخ جامعة بنها ليتخرج من الأوائل، ورغم ذلك لم يقف طموحه إلى هذا الحد وقرر استكمال الدراسات العليا، وحصل على درجة الماجستير بتقدير امتياز مع توصية بطبع رسالته ونشرها فى كافة الجامعات المصرية، ليقرر بعدها استكمال مسيرته ويقوم بالتحضير للدكتوراة فى التاريخ الحديث.
أول أيام الجامعة.. العصفور يخرج من القفص
أول أيام الجامعة كان انطلاقته الأولى، يصفها: "كان شعور عامل زى الطير اللى كان محبوس وانطلق يعتبر أول خروج ليا بشكل فردى من غير والدى ووالدتى، بس كان فيه نظرات كانت زى سكاكين ولكن وقفت قدامها وتحملتها، وبقيت عايز أثبت لأبويا وأمى إن ده مش حد معدم، والحمد لله دلوقتى بتتشرفوا بيه وبقى يعتبرنى القريبون منى ودكاترتى فى الكلية نموذجا مشرفا ومتحديا للإعاقة".
فترة الكلية، لم تكن سهلة على الطالب "منصور"، ففى البداية وفر له والده سيارة خاصة توصله حتى بابها، ثم بعد ذلك قرر الشاب أن يستخدم المواصلات كباقى زملائه، لتكون المرحلة الأصعب فى استخدام المواصلات والصعوبة التى كان يواجهها أثناء الصعود والنزول فى المواصلات.
"أول ما دخلت الكلية كان فيه نظرات معينة ولكن قدرت اتغلب عليها بطموحى ودوست عليها وحولتها من طاقة سلبية لإيجابية وبعد كدة بدأت حابب أركب مواصلات وأبقى زى الناس، بتواجهنى صعوبات رهيبة جدا فى المواصلات بس الحمد لله قدرت أتخلص منها وخاصة الركوب".
بعد فترة فى الجامعة تعرف "منصور" على الكثير من الأصدقاء، وتحسنت علاقته بهم إلى حد كبير حتى أطلقوا عليه "رأس الحربة"، يشاركوه لحظات المرح، تعلو أصواتهم ضحكا، يلعبون ويدرسون حتى أنهى الجامعة.
تكريم منصور ووالدته
فى 2011 كرمت جامعة بنها "منصور" كطالب مثالى ومتحدى للإعاقة، كما كرمت والدته كأفضل أم على مستوى الجامعة فى 2012.
الماجستير
بعد أن تخرج "منصور" من الكلية ضمن الأوائل، لم يتوقف طموحه إلى هذا الحد وبدأ الماجستير، بتخصص التاريخ الحديث، لتبدأ رحلة أخرى من الكفاح فى البحث عن المصادر والمراجع، "فضلت فى معاناة 3 سنوات، أذهب إلى دار الوثائق لمدة أربع أيام أسبوعيا من التاسعة صباحًا وحتى السابعة مساءً، حتى تتوقف يدى ولا أستطيع أن أحركها لتزداد آلاما على تلك الموجودة بها، ليحصل على درجة الماجستير بعنوان "الأزمة السورية التركية لعام 1957"، وهى عبارة عن دراسة تاريخية عسكرية للحدود بين سوريا وتركيا وتتكلم بشكل عام عن التدخل الغربى عن طريق أدواته فى الشرق الأوسط وكانت تركيا فى تلك الفترة، ولكن والدى توفى قبل ما أخده ودا كان حلمه".
إلقاء الندوات والمحاضرات
لم يقف طموح "منصور" عند هذا الحد وبدأ فى إلقاء الندوات والمحاضرات وكتابة المقالات العلمية، فيضيف "أول ندوة حضرتها كانت فى 2017 بعد ما حصلت على الماجستير تم دعوتى لمعرض الكتاب لإلقاء محاضرة عن التاريخ الحديث والخطر التركى على المنطقة اللى بدأنا نشوفه واضح جدا حاليا، وألقيت محاضرة فى جامعة أكتوبر تحت اسم "التاريخ وأهميته"، كما ألقيت العديد من المحاضرات فى الصالونات الثقافية مثل "الجبارتى"، والموجود فى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، كما نشرت العديد من المقالات التاريخية فى المجلات التاريخية التابعة لمركز تاريخ مصر الحديث والمعاصر".
مقابلة السيسي
"منصور" وجه الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسى، قائلًا "طبعا بشكر الرئيس السيسى لأن الواحد كان بيحس فى أوقات كتير إن صعب يتحس بينا ولكن فى مواقف كتير الرئيس الإنسان أثبت عكس ذلك وكان نفسى أقدر أشكره على ما قدمه لأصحاب الهمم بشكل مباشر، ونفسى أقابله علشان أشكره".
رسالة للشباب
كما وجه رسالة للشباب: "بقول للشباب اللى بيقول الحياة صعبة أنت عندك مميزات كتير تقدر تستخدمها فى كل حاجة فيه غيرك معندوش ربع اللى عندك وقدر يوصل علشان عنده هدف، هدفك هو سلاحك كمل طريقك ومتبصش لحاجة على إنها صعبة كله بمشيئة الله بيتم".
لحظات السعادة
يأخذ برهة ويميل إلى الوراء ثم تبتهج أساريره ويضيف "لحظات السعادة كتير فى حياتى الحمد لله أكثرها كان أول يوم كلية، ويوم ما اتكرمت والدتى كأفضل أم لعام 2012 لوقوفها جنبى ومساعدتها ليا، ويوم حصولى على الماجستير لأنى أثبت لنفسى والمجتمع ومن حولى إن أنا أقدر وبقيت أشوف نظرة مختلفة بدل من إنى مقدرش لأنى حاجة مشرفة يفتخر بيها أهلى وأصحابى، ولحظة أن وافقت زوجتي، حيث أنها إنسانة محترمة متفهمة نظرت إلى الجوهر لا المظاهر، وأيضا يوم أن رزقنى الله بطفلتى "نادين"، وتلك اللحظة التى عرفت فيها أن هناك أخرى فى الطريق".