"أُمرر بها وأقرأ شواهدَها بكلِّ لغاتِ أهلِ الأرضِ..
فيها الزنجُ والإفرنجُ والقِفْجَاقُ والصِّقْلابُ والبُشْنَاقُ..
والتاتارُ والأتراكُ، أهلُ الله والهلاك، والفقراءُ والملاك، والفجارُ والنساكُ
فيها كلُّ من وطئَ الثَّرى
كانوا الهوامشَ فى الكتابِ فأصبحوا نَصَّ المدينةِ قبلنا
أتراها ضاقت علينا وحدنا.. يا كاتب التاريخِ ماذا جَدَّ فاستثنيتنا
يا شيخُ فلتُعِدِ الكتابةَ والقراءةَ مرةً أخرى، أراك لَحَنْتْ".
كلماتٌ للشاعر الفلسطينى تميم البرغوثى، نقشت فى الكتب وعلقت فى الأذهان توضح مدى الصمود والقوة التى اتسم بها الفلسطينيون فى الدفاع عن حقوقهم، حينما حاولت إسرائيل بغاراتها المستمرة أن تطمس الهوية العربية، وتسيطر على الأراضى الفلسطينية، ليؤكدوا للجميع أن القدس ستظل فلسطينية عربية حتى النهاية.
عاشوا على صوت الرصاص، واتخذوه صديقًا لهم؛ يرافقهم فى معظم الأوقات، لم يحرك بداخلهم ساكنًا، بل كان مثل الألعاب التى يمتلكها الأطفال فى صغرهم، واتخذوا من الحجارة سلاحًا يتصدون به للقناصات والدبابات، ولم يكل أحدهم، ولا يمل من المظاهرات الحاشدة التى يشهدها العالم، منذ اغتصاب الاحتلال أرضهم وحتى تلك الآونة التى تشهد مسيرات العودة التى ينظمها الفلسطينيون كل جمعة.
فى الآونة الأخيرة، ومع اقتراب الفترة الانتخابية لرئيس الوزراء الإسرائيلى، بينيامين نتنياهو، بدأ جيش الكيان الصهيونى الإسرائيلى، يزيد من غاراته الغاشمة على المواطنين الفلسطينيين، الذين يخرجون فى مسيرات العودة، ولم تتوقف الضغوط عند هذا الحد ليعرف الفلسطينيون من سيواجهون ومن هو العدو الحقيقي، ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، وانقلبت الأيام القليلة الماضية رأسًا على عقب، بعدما شهدت مظاهرات شنها الفلسطينيون ضد أنفسهم تحمل عنوان "بدنا نعيش" خرجت ضد الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها تنظيم حماس، التى رصدت الكاميرات، كم الانتهاكات التى ترتكبها فى حق المواطنين، من التعذيب واعتقالات وتنكيل واستبداد.
البطل الذى قلب الموازين
فى الـ18 من عمره، ملامحه دقيقة رقيقة، ووجهه رائق القسمات من غير سوء، نحيل ينسدل من على كتفيه الشال الفلسطينى الملون، ملامحه تظهر حماسة، وتعبيرات وجهه تشير إلى رغبة الانتقام التى فى قلبه، وبالفعل عقد النية على الأخذ بالثأر من الأعداء، خرج فى الثانية ظهرًا يستقل سيارته ومعه خنجر صغير، وهجم على أحد جنود الاحتلال وقتله، ثم أخذ سلاحه المتعدد وعلى الفور قام بتصفية وإصابة الآخرين، وكأنه يمثل بالفعل اللعبة الإلكترونية المنتشرة فى الآونة الأخيرة "بابجى" فهو يبدو كالبطل الذى قتل الجميع ولاذ بالفرار، منذ ذلك الحين انقلبت الأحوال إلى مداهمات واعتقالات يشنها الكيان المحتل على الفلسطينيين، أملًا فى العثور على ذلك الفدائى الذى نفذ هذه العملية، فبعدما تطورت الأحداث وانقلبت إلى مداهمات للمنازل وارتكاب الجرائم، حاولت "بلدنا اليوم" التواصل مع البعض المواطنين لنقل أوجاعهم ومعرفة طبيعة المعيشة فى الأراضى المحتلة.
أحمد البرعى: الاستهدافات التى تحدث هدفها الأول والأثمن الشباب
أحمد رباح البرعى، شاب فى العقد الثانى من عمره، يقطن فى معسكر جباليا بمنطقة شمال قطاع غزة، منذ أن فتح عينيه على الدنيا وهو يعيش فى أحداث تلك المسرحية الدامية التى دارت أحداثها منذ عام 1948 ولم تنته حتى الآن، اعتبر أصوات الرصاص كالموسيقى التى تعزف على الأوتار، ولم ينزعج منها طوال حياته، واتخذ الحصى سلاحًا يدافع به عن نفسه إذا تعرض إلى هجوم من قوات الاحتلال الصهيونى، هكذا عاشت عائلته وسكان منطقته من قبل، وهو يسير على نفس الوتيرة.
"فقر، حصار، ظلم من جميع الجوانب".. هكذا بدأ الشاب العشرينى حديثه لمحرر "بلدنا اليوم" واصفًا تلك الحياة المريرة التى يعيشها الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، فهى عبارة عن زنزانة كبيرة محتجز بداخلها آلاف البشر، ورغم ذلك لا يستطيعون هدم جدران تلك الزنزانة لينالوا الحرية: "اللى بدك إياه بتلاقية هنا فى غزة، تهميش لكافة فئات الشباب، وأغلب فئات المجتمع، والبطالة هنا بنسبة تتجاوز الـ80%، وأما عن العنوسة فهى بمعدلات فظيعة لا تستطيع أن تجعل له مقياسا بالنسبة للحياة هنا، إحنا هنا بنواجه جيوش وليس جيش العدو الصهيونى فقط، فعن أى حياة تتحدث".
العالم ينظر إلى تلك البقعة من الأرض ويعتبر أنها عبارة عن حلقة صراع بين قوتين فقط، وهى الكيان الغاشم ويتصدى له الشعب الفلسطينى، ولكن الحقيقة كانت منافية لذلك تمامًا، يقول البرعى: فلسطين ليس بها احتلال واحد فقط، ولكن بها احتلالين، من جهة الكيان الصهيونى، ومن الجهة الأخرى احتلال الفصائل والقيادات: "والله نحن نعانى أشد الأمرين، وخصوصًا نحن الشباب، نواجه حملات كثيرة من العنف والإهانة والاعتقالات من الفصائل الفلسطينية، الذين من المفترض أخواننا، وأيضًا القمع والقتل من الكيان المحتل".
وتابع أن الاستهدافات التى تحدث سواء من إسرائيل أو الفصائل فى فلسطين، يكون هدفها الأول والأثمن هم الشباب، لأنهم من يسعون إلى التغيير هنا وتحقيق الحرية، على خلاف المشايخ والكبار: "بدون مبالغة الشباب وهم أكثر الطبقات تهميشًا وظلما، ويعانون بكل جوانب الحياة، خصوصًا جيل الثمانينيات والتسعينيات"، مضيفًا: هناك مدينة تدعى بدير البلح، وهناك عائلات كبيرة وذات نفوذ قوية مثل عائلة البحيصى وعائلة رباح، تعرضوا لأشد أنواع الاعتقالات والإهانة، وأنا أعرف بعضاً من أفراد تلك العائلات وهم هاربون من بيوتهم منذ بضعة أيام، فالأوضاع عبارة عن صفيح ساخن هنا".
عايد: مظاهرات "بدنا نعيش" انقلبت لاشتباكات مع حماس
ومن رام الله، بالضفة الغربية شمال القدس، دافع "عايد المرسى"، البالغ من العمر 47 عامًا، عن موطنه على مدار السنوات الماضية، وقف شامخًا أمام الاحتلال الإسرائيلى، ولم يكل ولا يمل، بل رسم فى مخيلته حلم الحرية والأمان وسعى من أجله، ولكن العام الماضى كان بمثابة القشة التى قسمت ظهر الرجل صاحب الأربعين ربيعًا، بعدما سمع خبر استشهاد نجله 17 عاما، أثناء اشتباكات حدثت مع جنود الكيان المحتل.
عايد تحدث لـ"بلدنا اليوم" عن المأساة التى يعيشون فيها بالضفة الغربية ككل وليست مدينته فقط غربى رام الله: "فقدت نجلى العام الماضى، بعدما أطلقت قوة إسرائيلية النار عليه قرب حاجز عسكرى على مدخل بلدة "بيت سيرا"، وأصيب برصاص حى فى الصدر أسفر عن استشهاده، وتم نقله لمستشفى مجمع فلسطين الطبى ولكن لم نستطع إنقاذه".
الحياة فى الضفة الغربية ليست على ما يرام، فالعديد من الشباب يفرون من البلد ويهاجرون إلى الدول المجاورة، بحثًا عن الأمان: "الشباب الباقون هنا فى رام الله مازالوا على نفس المنوال لو فتح المعبر مرةً أخرى سيخرج الجميع للهجرة"، مضيفًا: "الهجرة تحصل بسبب اليأس أولا، والخوف من الفصائل ثم من مداهمات الكيان المحتل، والمسئولون لم يعودوا يهتمون بالقضية الفلسطينية من الأساس، فما بالك من باقى الشعب".
"الاحتلال أهون بكتير.. نحن نعانى من الداخل أكثر من الخارج".. كلمات تثير الدهشة والفضول تلفظ بها الرجل الأربعينى ردًا على سؤال، ما هى المخاطر التى يواجهها الفلسطينيون من الاحتلال؟، ولكن الإجابة كانت ممتلئة باليأس وموضحة عدم الأمان الذى يعيشون فيه: "المعاناة الحقيقية فى الداخل، لكن الاحتلال عارفين أى آخره، ولكن الفصائل العربية الفلسطينية التى ترتكب الجرائم بحقنا والاستبداد، هذا غير الجرائم النفسية والمعنوية، فقد انتشر بشكل واسع الظلم والفقر والتهميش والبطالة ولعن طبقة الخريجين، سببها الأول والرئيسى تخاذل الفصائل وقياداتهم وضحكهم على الشعب".
ويؤكد عايد أن المظاهرات التى شهدتها المنطقة خلال الأيام الماضية بعنوان "بدنا نعيش" تحولت بالفعل إلى اشتباكات بين قوات حماس والأهالى، وخصوصًا بوسط قطاع غزة، مضيفًا: " قوات الأمن ترتكب ما يرتكبه الكيان الصهيونى فى الشعب بالضفة الغربية".
وتابع: الأمنيات التى نريد تحقيقها أن فتح وحماس بما أنهما الفصيلان المسئولان عن الشعب، أن يهتما بجميع القضايا التى يعانى منها الفلسطينيون، وأيضًا نطالب المسئولين عن القطاع برفع الغلاء عن الكثير من البضائع نظرا للوضع الاقتصادى السيئ جدًا، ورفع الضرائب والجمارك، وتحسين المعيشة بتوفير فرص العمل وتحريك ملف البطالة، فكلها أشياء نعانى منها منذ سنوات طويلة.
أبو غليون: نعانى مشكلات أكثر من مواجهة الكيان الصهيونى
وفى وسط قطاع غزة، منذ 23 عامًا، ولد "عمرو أبو غليون "، فى أجواء مظلمة، وعاصر المشكلة الأكبر من نوعها والتى يعانى منها سكان القطاع على مدار سنوات مضت، فحينما سئل عنها، أجاب بابتسامة ساخرة، وبتكرار السؤال أجاب بمزيد من التبسم: "ليش أخى الحبيب بتفكرنى بهالمشكلة، تقريبًا من يوم ما اتولدت وهالقصة مش هتنتهى، على مر سنوات نعانى منها ولا أحد يستجيب، فقط الكهرباء تأتى هنا فى القطاع قرابة أربع أو ست ساعات فى اليوم، وباقى الليل والنهار، نعيش فى ظلمة".
وتابع: رغم أنه لم يوجد احتلال فى قطاع غزة، إلا أننا نعانى أكثر من مواجهة الكيان الصهيونى، فهناك مشكلات تعقد الحياة أكثر من مواجهة الاحتلال، كالبطالة والعنوسة والكهرباء والفقر، جميعها مشكلات يعانى منها المجتمع الفلسطينى ككل وليس قطاع غزة فقط، مضيفًا: المجتمع الدولى لا يتحرك نحو القضية الفلسطينية ولم يعد أحد يحرك ساكنًا، ولذلك سيبقى المجتمع الدولى كما عاهدناه كالشيطان الأخرس تمامًا متخاذلًا وساكتا عن الحق.
لم أشارك فى مسيرات العودة الكبرى التى يشنها الفلسطينيون كل جمعة، لأنى غير مؤمن بأهدافها مؤخرًا، فمعظم الأهداف تتجلى بأن الفصائل جعلوها فى خدمة أهدافهم وليست فى خدمة الشعب الفلسطينى، هكذا رد الشاب العشرينى على انطباعه تجاه مسيرات العودة الكبرى، مضيفًا: "الفصائل تستغل هذه المظاهرات فى دخول الدعم والتنسيق، والحصول على النقود لهم وليس للشعب".
ياسر: السلطات الفلسطينية ساعدت إسرائيل فى القبض على الشهيد
أما عن الاستهدافات التى تشهدها المناطق الفلسطينية كل فترة، فقد كانت منطقة سلفيت بالضفة الغربية، شاهدًا عيانًا على عملية فدائية نفذها الشاب صاحب الـ 19 عامًا، عمر أبو ليلى، أكد "ياسر على" القاطن فى المدينة سالفة الذكر، أن استهدافات الكيان المحتل ليست متواصلة فى الضفة ولكنها تحدث كل فترة، وذلك على خلفية اشتباكات بين جنود الاحتلال وأحد الشبان أو غير ذلك.
وأضاف الشاب: أن العملية التى نفذها "عمر أبو ليلى" ابن منطقة الزاوية بسلفيت، هى عبارة عن عملية رجولية كالعادة، وهى تأتى أيضًا ردًا على سلسلة الاعتداءات والتجاوزات التى يقوم بها جنود الاحتلال الإسرائيلى، ضد أبناء شعبنا بالضفة والقدس المحتل.
وتابع ياسر، الشهيد عُثر عليه بواسطة السلطات الفلسطينية بالتعاون مع الشاباك الإسرائيلى فى قرية عبوين برام الله، وهو ما أكده سابقا بشكل ضمنى قائد الشرطة الفلسطينية فى الضفة اللواء حازم عطا الله الذى قال: "نسعى جاهدين دون وجل أو خجل فى العثور على منفذ عملية سلفيت الكيدية لتتفرغ قيادة السلطة فى متابعة استعادة غزة المسلوبة من الظلاميين"، مضيفًا: لهذا السبب نحن نرفض أى هيمنة غربية على القرار والأرض والثروة، ونرفض عملاء الغرب من جنرالات الأحداثيات بالرجمة حتى ساسية أبوستة ونهاية بعصابات الإرهاب ومليشيات الجريمة.
أحمد خلاف: نريد من المجتمع الدولى أن يعتبرنا بنى آدميين
ومن مدينة نابلس بالضفة شمال الضفة الغربية، اشتهر "أحمد خلاف" البالغ من العمر 40 عامًا، بالدقة فى التقاط الصور، فهى مهنته التى يعمل فيها منذ سنوات، والتى وثق من خلالها العديد من الجرائم التى يرتكبها جنود الكيان الصهيونى المحتل، بحق المواطنين فى مدينة نابلس التى شهد الأسبوع الماضى انتهاكًا من جنود الاحتلال بحق 3 شهداء فى المنطقة ذاتها.
يشير خلاف إلى المخاطر التى يتعرض لها سكان منطقة نابلس من قوات الاحتلال الإسرائيلى، فعمليات القتل هنا كثيرة وتكون بمزاج الجنود الموجودين على الحواجز، وهذا ما يحدث كل مرة، حيث كان آخرهم الشابان اللذان استشهدا وأصيب آخر بعد تعرضهما إلى إطلاق النار أثناء استقلال السيارة قرب حاجز "النشاش جنوبى مدينة بيت لحم"، ولم يكن أحد يعرف الأسباب التى دفعت جنود الاحتلال إلى ذلك، مضيفا: "وبنفس اليوم قتل جنود إسرائيليون شابين بنفس الطريقة شرق مدينة نابلس، وبكل مرة تكون حجتهم معروفة، وهى أن هالشباب يشكلون خطرًا على الأمن الإسرائيلى".
وتابع: الضفة جميعها تعيش حالة من التوتر والقليل، خلال هذه الأيام، وذلك بعد العملية الفدائية التى نفذها عمر أبو ليلى، فجيش الاحتلال زاد من تواجد الجنود على الحواجز فى الطرق، والجميع معرض للمداهمات التى تشنها إسرائيل.
"بنطالب المجتمع الدولى أنو يعتبرنا بنى آدميين ويطبق قوانين حقوق الإنسان فى العيش وحق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية".. هكذا يتمنى الرجل ذو الأربعين عاما بتحقيق القانون الدولي لحقوق الإنسان فى الأراضى الفلسطينية، ضد انتهاكات الكيان الصهيونى، حتى يستطيعوا العيش كمثل الدول العربية جميعها.
العديد من المواطنين الفلسطينيين لا يستطيعون التحرك فى جميع المدن التابعة لوطنهم، بسبب الحواجز التى أقامتها القوات الإسرائيلية على الطرق المؤدية إلى البلدان وبعضها، وهذا ما أكده خلاف: "أنا ما بخرج كتير بره نابلس لطبيعة العمل، وبسبب التعرضات الإسرائيلية، وإذا خرجنا مثلا فى جولة بجبال الضفة نخرج بما يقارب من "150 -300" شابى وصبية فالعدد الكبير بيحسبو حسابو.. ولما نخرج لازم يكون الوضع هادئ مشان ما نعلق معهم".