تدور على الجالسين في صمتٍ، تضع أمام كل منهم عبوة مناديل ورقية، لا تفرض نفسها عليهم، تُعيد كرتها مرة أخرى، تُحاسب من اشترى، وتٌعيد في كيسها الصغير العبوات غير المشتراة، وتبدأ جولتها من جديد على صفٍ ثانٍ من رواد المقهي، وثالث، وتستمر رحلة سعيها وراء القروش القليلة التي تجنيها كمكسب لها، متنقلة عبر ساعات اليوم من مقهى لآخر، ومن شارع لآخر، ومن منطقة لمناطق عديدة.
رحلة شقاء وكفاح يومية متكررة ومستمرة لا تنتهي إلا مع آخر ساعات اليوم، لتريح في نهايته جسدها المنهك.
كثيرون يؤدون هذه العملية، إلا أن شيئًا ما في ملامحها الشائخة، وعباءتها وقدمها التي بها عرج خفيف، وسدادة العين فوق عينها اليسرى، وتعاملها بكل كبرياء ورضاء، كل هذه العلامات تشي أن خلف هذه الملامح التي تتضح عليها صفعات الحياة قصة تستحق أن ندق بابها لنستشكف خباياها.
تفخر "أم منة" بعملها كـ "بائعة مناديل"، فهي تكسب منها بالحلال، وتعمل هذه المهنة منذ 19 عامًا، هي عدد السنين التي بدأت فيه رحلتها منذ وفاة زوجها، مُخلفًا وراءه 3 بنات، دون ما يُعينهم وأمهم على استكمال حياتهم، إلا معاش يُصرف لهم من وظيفته الأخيرة كسائق قبل أن يواري جسده التراب، كان في البداية يُشارك بائعة المناديل فيه، زوجته الأولى، ووصلت قيمته الإجمالية الآن إلى 910 جنيهًا، ويُصرف منه فعليًا 650 جنيهًا، بعد خصم قيمة القسط الشهري من قرض تسلمته من بنك التعمير والإسكان، لتزويج بنتها الوسطى، لكنها لا تدري كيف ستكمل مسيرتها كأم مع بنتيها الأخريتين، وتطمئن على كل واحدة منهن في بيت زوجها، خاصًة أن القرض وحده لم يكفِ ستر ابنتها الوسطى، لولا مساعدة تلقتها من جمعية الأورمان و "أهل الخير"، كما تصفهم السيدة المُسنة.
لم تكن حياتها قبل وفاة زوجها سعيدة كما ينبغي، مشاكل مستمرة مع "ضٌرتها"، تعرضت فيها مرات عديدة للإعتداء اللفظي والجسدي وصل مداها إلى تخييط رأسها وكسر في أسنانها، لم يجد زوجها حينها مفرًا من فصل الزوجتين عن بعضهما، فأستأجر شقة غرفة وصالة في بقعة نائية، في منطقة النوبارية، على أطراف الإسكندرية، وعقب وفاته، ولطول إنهاء إجراءات صرف المعاش المُستحق لها، التي استمرت سنة، بدأت في الإعتماد على نفسها فلجأت إلى العمل كـ"مضيفة" في بيت أحد الضباط المتقاعدين، بعمارات الشرطة بمنطقة مٌصطفى كامل، تستذكره أم منة بكل خير فهو كان بمثابة الأب الروحي لها ولصغيراتها، لكن استقرارها النسبي لم يدم، وانتهى كل شئ بوفاته، لتأخذ قصة كدها منحىً آخر، وتقرر أن تواجه قدرها بنفسها بشكٍل مختلف، وعلى مدار 11 عامًا احترفت بيع المناديل الورقية في الشوارع، بدأت مشروعها البسيط بـ 10 جنيهات.
تحكي "أم منة" عن البداية: "كان سعر كيس المناديل 3 جنيهات، الآن وصل سعره إلى 8 جنيهات، أبدأ يومي بشراء 3 أكياس، أوزعهم حتى انتهي منهم، وأعاود الشراء والبيع من جديد، ليتجمع في يدي في نهاية اليوم من 150 إلى 200 جنيهًا"، بحسابٍ بسيط فإن مكسبها من الكيس الواحد 20 قرشًا، حيث يضم الكيس الكبير 10 باكو منديل".
يوميًا، تنزل من بيتها قبل صلاة المغرب بوقتٍ قصير، وتقطع الطريق من الناصرية الجديدة، حيث تقيم الآن إلى منطقة العجمي، وبعد انتهاء صلاة العشاء تبدأ في اللف لعرض بضاعتها،ت ضطر للسير مسافات طويلة لتوفير الأجرة، تقول :"الـ 2 جنيه بتوع أجرة المواصلات، أنا أولى بيهم عشان أحوش لزواج بنتي الصغيرة"، وفي نهاية كل يوم ترجع الى شقتها في الواحدة صباحًا، وتقطع السٌلم الطويل إلى الدور السادس رغم آلام قدمها المنهكة من المسافات الطويلة التي قطعتها، والآم سرطان العظام الذي اخترقها منذ عامان.
من وقتٍ لآخر يهاجمها ضيق التنفس، حتى إنها تُنهي يومها بعد عملها الشاق، بالتوجه للسوق لشراء احتياجات المنزل، والتوجه للصيدلية لشراء البخاخة والبرشام اللازم لعلاجها، لكن أقسى اللحظات عليها حين يهاجمها وهي لا تزال لم تنزل من بيتها، ولا يتوافر لديها البخاخة، أو يمكن نقلها للمستشفي لعلاجها بالأوكسجين، فتلجأ وقتها لحيلة أبتدعتها وهي قيامها بغلي الماء في حلة على البوتجاز، واستنشاق الدخان مع الزحف بصدرها على الأرض ليدخل الهواء لصدرها وتتخلص من أزمتها بشكلٍ مؤقت.
تكلفة علاجها من الأمراض المذكورة، تتكلف آلاف الجنيهات شهريًا، ما يفوق قدرتها، لكن الحل دائمًا يأتي من الذين تصفهم بـ "الخير"، وهم عدد من زبائنها الذين تحولوا لمساعدتها في تكاليف علاجها وشراء الأدوية لها، وتحمل تكلفة عملية عينها الأخيرة، تصف أم منة علاقتها بهم إنها مع مرور الوقت تحولت لعلاقة صداقة، وهم دائمو الإطمئنان عليها تليفونيًا، إذا لم يروها وهي تزاول عملها يومًا أو اثنين، تشمل قائمة أهل الخير، مهندسين بشركة صناعية كبرى في منطقة العجمي،وجزارين،و أصحاب محلات، ورواد مقاهي، منهم من ساهم في تزويج إبنتها الوسطى.
أيضًا، تتراكم عليها فواتير الكهرباء،حتى وصلت إلى نحو 5000 جنيه،ورغم تعاطف المحصلون معها،ونصيحتهم لها بإستلاف المبلغ وسداده،لكنها تضطر عند نزول مباحث الكهرباء إلى الهرب خوفًا من تعرضها لقضية،متساءلة " أجيب منين".
كل ما تحلم به ليس العلاج على نفقة الدولة ولا المعاش، فـ "أهل الخير" قايمين بيا"، حُلمها أن تقابل الرئيس السيسي، وأن يمنحها شقة "حتى لو فوق السطوح أو تحت الأرض، عشان بناتي ميترموش، في الشارع بعد ما أموت" و"كشك" تكسب منه رزقها بعدما اُستنزفت صحتها.