وقف السبعيني برفقة حفيده يقبض علي يديه من ناحية، والأخرى يحمل نعليه بها، سار بخطوات بطيئة، يتحسس الأرض، امتلأت عيناه بالدموع، التفت يمينّا ويسارّا يتأمل أرجاء المكان، عاد بالذاكرة لأكثر من 60 عامّا، صغيرّا لم يتجاوز العاشرة من عمره يُنادي بأعلى صوته على أمه، يبحث عنها في كل مكان، على مرمى بصره امرأة تُناديه من بعيد تحتضن فتاة صغيرة تستند على إحدى الجدران، الدماء أخفت ملامحها، هرول إليها مُسرعّا علّها تُخبره عن مكان والدته.
اقترب الطفل من السيدة وعلت الصدمة ملامح وجهه، تلك الملابس يعرفها جيدّا الفتاة التي تحتضنها المرأة، نعم فهي شقيقتهم الكبرى صاحبة الـ16 عامّا، صرخة مدوية خرجت من حنجرة الصغير، والدته وشقيقته معّا تغطيهم الدماء، الرصاص اخترق أجسادهم، وقف يتأمل المكان، أرض تملأها جثث الشهداء، آباء وأمهات يفتشون عن أبنائهم بين الجثث، أطفال ونساء وشباب الجميع اغتيلوا بدم بارد.
"مذبحة خان يونس" مجزرة لا تزال في وجدان من عاصروها، آلاف الشهداء ارتوت الأرض الطاهرة بدمائهم، اليوم، الثاني عشر من فبراير، ذكرى أبشع مجذرة في تاريخ الإنسانية، يوم أن قتلت عصابات الاحتلال المدنيين العزل فلسطينيين ومصريين بدم بارد في مخيم خان يونس، ويتوافق مع ذكرى المذبحة جريثمة قامت بها قوات الاحتلال ليل أمس بعد اغتيالها لسبعة من رجال المقاومة بخان يونس وقصف المدينة بالطائرات.
مشاهد من المجزرة
الثالث من نوفمبر عام 1956 كانت أولى حلقات المذبحة، حينما دخلت قوات من الجيش الإسرائيلي إلى مدينة خان يونس، بعد معارك ضارية وبعد سقوط جميع أنحاء قطاع غزة حينها، وكانت خان يونس آخر جزء استسلم من القطاع، وبدأت خيوط المجزرة بإلقاء الاحتلال منشورات من الطائرات تحذر السكان من مقاومة القوات الإسرائيلية، قبل أن تدفع بآلياتها العسكرية بشوارع خان يونس وتطالب عبر مكبرات الصوت بخروج الذكور من عمر 16 وحتى 50 عاما.
اقتحموا المنازل لم يراعوا حرمة امرأة أو طفل، اختطفوا الشباب من أحضان أمهاتهم، سحلوهم على التراب، قتلوهم بدم بارد أمام ذويهم ونفذ اليهود في ذلك اليوم، مجزرة بشعة راح ضحيتها أكثر من 500 مواطن غدرا .
وقد تواصلت هذه المجزرة حتى الثاني عشر من شهر نوفمبر 1956 حيث واصلت قوات الاحتلال مجازرها بحق المدنيين من خان يونس ومخيمها وقراها وقوات الجيش المصري الذي كان يدافع عن المدينة موقعة المئات بل الآلاف من الشهداء والجرحى، وكان مجموع القتلى من المدنيين والعسكريين الفلسطينيين والمصريين ما يقارب من 2000 شخص لكن لم توجد إحصائيات رسمية تؤكد ذلك, خاصة وأن الشهداء من سكان مدينة خانيونس لوحدها فقط قتل منهم ما بين 500 ــ 600 شخص.
ولم تكن مجزرة خان يونس هي الوحيدة بل كانت هي الأعنف والأقسى, فكانت في أكثر من موقع وأكثر من مجزرة, فلم يخلوا بيت إلا وقد أصابه نصيب من الشهداء والجرحى, فهناك تضارب في عدد الشهداء فبعض المؤرخين قالوا أن عدد شهداء مجزرة خان يونس فاق 530 شهيداً, وبعضهم الأخر أكد أن عدد الشهداء قارب للألف 1000 شهيد من الرجال والشباب والأطفال والنساء، ومن شدة الإجرام والقسوة أن أهالي الشهداء دفنوا جثت الشهداء بعد مرور أربعة أيام, حيث كانت الجثث في الشوارع.
ونال الجنود المصرييون وقتها نصيبّا من تلك الشهادة، حينما تواجدة فرقة تابعة للبطل الراحل مصطفة حافظ لحماية المخيم، وبعد معارك ضاربة مع قوات الاحتلال استشهد عدد كبير من المصريين، بل وصل الحد لجنود الاحتلال أن بحثوا عن المتبقيين منهم والقبض عليهم وقتلهم بالرصاص بطريقة غير آدمية.
دفن المصريون في أرض فلسطين وأنشئ ضريح لهم هذا الضريح الذي سيكون شاهدّا على أنّ تلك الأرض ارتوت بدماء الأشقاء، الذين حاولوا استعادتها من مغتصب آثم.