أهل القرية التي نسكنها مختلفون كعاداتهم فيما يحدث آخر الليل بالبيوت المهجورة التي تتوسط البلدة، وآراؤهم متنافرة دومًا، فالبعض يرى أن تلك البيوت نقمة لحقت بسكان المنطقة، بسبب ما يحدث فيها من حركات شيطانية في الظلام، وعلى النقيض يرى البعض الآخر أنها نعمة هبطت عليهم وسوف تظهر نتائجها عندما يزوجون أولادهم وأن تلك الحركات الشيطانية التي يتحدثون عنها ما هي إلا تخاريف ولا يوجد في هذه البيوت "لا عفاريت ولا غيره".
على بُعد أمتار يجلس طفلًا في العاشرة من عمره، يناديه الجميع بـ"عمار" - ملامحه دقيقة رقيقة، وعيناه الواسعتان جميلتان، رائحة العطر الخافت تفوح من ثوبه فاقع اللون، لم يشبه سكان قريته، فهو يبدو في صغره مثل قديس هبط من السماء بلا قصد ليعيش بين هؤلاء - يجلس أسفل شجرةٍ مثمرة، تنظر إليه من بعيد في مكانه تعتقد أنه عبارة عن لوحة فنية مرسومة باحتراف، وينظر صوب الحلقة الكبيرة التي يجتمع فيها سكان القرية، مستمعًا إلى تلك الأقوال المتضاربة حول العفاريت والأشباح التي يدعي بعض أفراد المنطقة أنها تسكن في البيوت المهجورة.
القرية صغيرة بها أشجار الموز المتناثرة الممتدة حتى آخر الكفر، وتحوطها ترعة ممتلئة بالمياه، تفيض كل حين وأخر فتُعطل حركة المارة على الطريق، وفي المقدمة على يمين الداخل إلى القرية يسكن "عمار" في البيت الرابع المبني من الطوب الجيري، والمسقوف بالألواح الخشبية والبوص، برفقة أسرته المكونة من أربع أفراد، يجلسون جميعًا كل يوم عقب تناول العشاء على أضواء الشموع وتبدأ الحكايات الطويلة عن تلك العفاريت التي تتلاعب في أنحاء القرية، ويسرد الأب الحكايات التي يزعم أنه راءها بعينه في تلك البيوت المهجورة، حتى يسكن الخوف في قلب الصغير لكى لا يقترب من هناك مرة ثانية.
منذ سنوات مضت كانت معظم محافظات مصر لا يوجد بها كهرباء، وكان الجهل يُمارس بطريقة كبيرة، فكانت أسماء العفاريت تذكر كثيرَا والكل يحترسها بسبب الظلام الذي يداعبهم مع مجيء الليل، فالأطفال الصغار كانوا يعتقدون اعتقادًا كليًا بوجود العفاريت بينهم، يسكنون في مساكنهم ويعيشون معهم على نمط واحد، الأمر بدأ يداعب الطفل "عمار" ويتكرر كثيرًا أمامه، حتى تيقن في يوم ما من وجود العفاريت، وذلك حينما تحدث الخطيب من أعلى منبره قائلًا: "قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ" حينها علم عمار بوجود هذه المخلوقات في الأرض، وعلى الفور بدأت رحلته المختلفة مع العفاريت والرعب الذي عاش فيه بسببهم.
أشتهر قديمًا بين الناس أن العفاريت تفعل أشياء عجيبة لابد أن يقبلها الجميع، وفقًا لما حكى بعض القدماء، وكان من أشهر الأشياء التي يحرص عليها العفريت هي اختلاس أموال الناس المخبوء، وكلما سرقت أموال شخص اتهم الذين من حوله وصاح فيهم بما معناه: "يعني الفلوس خدها عفريت" ويثور الجدل ومنذ ذلك الحين اعتقد البعض أن الأموال التي تختفي ولا يحدد مصيرها فمن سرقها هو العفريت، وعلى هذا المنوال نشاء عمار ومن على شاكلته بهذه الطريقة، يعاشرون العفاريت في حياتهم بشكل مستمر.
لم يتوقف الأمر على الحكايات التي يداولها البعض فيما بينهم فقط، بل تسلل المصطلح بشكل تلقائي إلى الحياة الجادة بين الاباء والابناء، ففي يومي الأحد والجمعة من كل أسبوع، كانت أم "عمار" كباقي الجيران تطلق في البيت البخور البلدي الذي هو عبارة عن قِطع من الخشب الصغير المبللة بزيت عطري، ومبثوث بكُرات حمراء أسمها "عين العفريت" وفي كل مرة كالعادة ينفعل أحد أفراد الأسرة أو الجيران فعلى الفور كانت السيدة توصف انفعاله بالعبارة المعتادة "راكبه عفريت".
الأطفال في صغرهم لا يفضلون شيئًا على اللعب في الشوارع الضيقة بـ"الكرة.. أو عسكر وحرامي"، وغالبًا كان يحدث بينهم كل خمس دقائق تقريبًا مشاجرة على شيء ما، ويتحول اللعب في لحظات قليلة إلى خناق لا يفضه إلا أحد رجال القرية المارين من الطريق، وذلك عن طريق كلماته التي يتلفظ بها "ياض بطل عفرته"، حتى يتهيأ للأطفال أنهم فعلوا حركات مقتصرة فقط على العفاريت.
يقول عمار الطفل الصغير الذي عاش في عصر العفاريت: كانت أمي تتحفني في طفولتي كل مساء، حينما تلمح عيناي نيران "السبرتاية" وهي مشتعلة على أحلى مشروب يمكن أن يحتسيه إنسان "اللبن" وتلقى عليه عند بدأ غليانه قطع الشوكولاتة، وتقلبه برفق حتى يذوب، ثم تصبه رويدًا رويدًا في الكوب الكبير المشهور عندنا بـ"الكوز" فأستمتع بالمذاق القوي، وحينما سألتها من علمها هذه الطريقة في إعداد الشراب، قالت ببساطة إنها فكرة أوحى بها العفريت إليها، فقامت بتنفيذها، فصاح عمار بفرح طفولي وببراءة واضحة على ملامح وجهه قائلًأ: "عاش العفريت نموت نموت ويحيا العفريت".
موضوعات متعلقة:
عالم في بيت فسق
السجن المشدد 15 عاما غيابيًا لـ'نائب العفاريت' ببني سويف
«عفاريت وأقزام وملابس شيطانية وقذف الأحذية»..الأبرز في احتفالات الكريسماس