في عام 2001، أي قبل 24 عامًا من الآن، رويت لي قصة مؤثرة عن رحلة مميزة إلى العراق قام بها زميلي المصور الصحفي الشهير حسن عبد الفتاح، الذي كان يروي لي تفاصيل زياراته المتعددة إلى مقهى “أم كلثوم” في بغداد، وهو أحد المعالم الثقافية الشهيرة هناك، والذي أسسّه الحاج عبد المعين الموصللي. يقع هذا المقهى في حي المربعة، وهو حي يضم أغلب المصريين العاملين في العراق، بالإضافة إلى عدد من العائلات العراقية. كان المكان يعد ملاذًا لمحبي سيدة الغناء العربي أم كلثوم، حيث كان صوتها يملأ الأرجاء بأجمل أغانيها، لا سيما الأغاني القديمة والنادرة التي قدمتها في بداية مشوارها الفني.
تاريخ مقهي "أم كلثوم"
يعود تاريخ المقهى إلى عام 1964، حيث افتتحه الحاج عبد المعين، ومنذ ذلك الوقت، أصبح المقهى بمثابة نقطة جذب لعشاق أم كلثوم، الذين يتوافدون للاستماع إلى أغانيها من جميع الأعمار. الجدير بالذكر أن الحاج عبد المعين قرر تكريس المقهى كمنارة ثقافية تحمل اسم أم كلثوم وتحتفي بها من خلال صورها التي تزين جدرانه. فداخل المقهى، يكتشف الزوار أكثر من 500 صورة نادرة لأم كلثوم، وهي تمسك بالمنديل الشهير وتؤدي أغانيها التي خلّدت اسمها في تاريخ الفن العربي.
القصّة المدهشة التي شاركها الحاج عبد المعين مع حسن عبد الفتاح كانت تتعلق بالكنز الذي حصل عليه في القاهرة خلال رحلة طويلة استمرت ثلاث سنوات، بهدف جمع أغاني أم كلثوم منذ بداياتها وحتى أواخر مسيرتها. هذه الرحلة أسفرت عن جمع 700 أغنية “ماستر” على الأسطوانات الأصلية، تشمل أغانيها التي كان عمرها عشر سنوات حين غنتها لأول مرة. وعندما سُئل الحاج عبد المعين عما إذا كان يبيع هذا الكنز، كان جوابه قاطعًا: “لا شيء في الدنيا يمكن أن يعوضني عن هذا التراث العظيم”.
وتستمر القصة في سرد كيفية أن الحاج عبد المعين قد لاحظ بعد عرض مسلسل أم كلثوم على التلفزيون العراقي، أن جيل الشباب بدأ يتوافد بكثرة إلى المقهى لسماع أغاني أم كلثوم، وهو ما كان مفاجئًا له في البداية، حيث كان زوار المقهى سابقًا من كبار السن الذين عاشوا فترة أم كلثوم الذهبية. لكن بعد المسلسل، أصبح جيل الشباب يتفوق على جيل الكبار في الحضور، ليعبر بذلك عن استمرار تأثير أم كلثوم عبر الأجيال.
في قلب المقهى، يتوسط الجدار خطاب بخط يد أم كلثوم أرسلته إلى الشاعرة العراقية وديعة جعفر الشبيبى في عام 1946. في هذا الخطاب، تعبر أم كلثوم عن إعجابها بشعرها وتقدم لها صورًا فوتوغرافية كهدية رمزية. هذا الخطاب أصبح جزءًا من تاريخ المقهى، إلى جانب مجموعة من المعلومات والحقائق المتعلقة بكل أغنية لأم كلثوم، مثل مؤلفي كلماتها وملحنيها وتاريخ إصدارها.
وقد تزايد حب الجمهور للمقهى بشكل ملفت، حيث كانت هناك قصص عديدة تتعلق بمكانته العميقة في قلوب الناس. فحتى في عام 1981، قرر زوجان شابان أن يقيموا حفل زفافهما داخل المقهى، إيمانًا منهما بأن هذا المكان شهد بداية تعارفهما، وأن أغانى أم كلثوم كانت تلعب دورًا أساسيًا في التقارب بينهما.
وهكذا، بقي مقهى أم كلثوم في بغداد رمزًا للذاكرة الفنية، وهو يعكس عمق ارتباط الشعب العراقي، كما باقي الشعوب العربية، بهذه الفنانة التي تركت بصمة لا تمحى في تاريخ الموسيقى العربية. لم يكن هذا المقهى مجرد مكان للاستماع إلى الموسيقى، بل كان معبدًا للذكريات، حيث يستمتع الزوار بكل لحظة تعيد إليهم روح أم كلثوم وحضورها الطاغي في قلوب محبيها من كل الأعمار.