مع اقتراب الكرنفال العالمي لكرة القدم، تستعد قطر لرواج اقتصادي غير مسبوق، تزامنا مع ملايين من الزوار حجزوا مقاعدهم بمختلف الملاعب.
وأعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" عن تسجيل 23 مليون و500 ألف طلب للحصول على تذاكر مباريات كأس العالم 2022 في قطر، وذلك مع انتهاء آخر مرحلة لمبيعات التذاكر بنظام القرعة الخميس الماضي.
إذا كانت قطر نجحت في جذب أنظار العالم إلى هذا البلد الصغير، بإنشاءات ضخمة تجاوزت 229 مليار دولار، من أجل استضافة كأس العالم لكرة القدم، فهل تعود تلك الإنفاقات الضخمة على الاقتصاد القطري؟
السؤال يطرح نفسه بشكل واضح.. ماذا بعد انتهاء كأس العالم ومغادرة أكثر من 23 مليون زائر؟
هذه المخاوف أبرزتها وكالة أنباء "رويترز" في تقرير لها من "درب لوسيل" بالدوحة، حيث يكدح عمال البناء قبل بدء بطولة كأس العالم لكرة القدم لتحويل الصحراء إلى شارع تجاري يعج بالحياة على غرار الشانزليزيه، وبتكلفة تبلغ 300 مليون دولار، يقبع متجر وحيد للسلع الغذائية وغيرها.
يقف مديره يونس خلف خزينة متجره يترقب ازدهار التجارة فور انطلاق صفارة بدء الحدث الكبير في نوفمبر ، حيث يقام الملعب الرئيسي وأربع ناطحات سحاب ووحدات سكنية صُممت لتسع حوالي 200 ألف شخص.
أنفقت قطر 229 مليار دولار على الأقل على مشروعات البنية التحتية في 11 عاما منذ فوزها باستضافة كأس العالم لعام 2022 في محاولة منها لمواكبة التحول الضخم في بقاع خليجية منافسة.
وقال مسؤول حكومي لـ"رويترز" إن تخطيط أغلب الأعمال تم بشكل منفصل مع سعي قطر لتنويع أنشطتها الاقتصادية غير المعتمدة على الطاقة، طامحة في أن تصبح مركزا إقليميا للأعمال وإلى زيادة عدد السياح إلى ثلاثة أمثاله ليبلغ ستة ملايين سائح سنويا بحلول 2030.
لكن المحللين والأكاديميين غير مقتنعين بأن إنفاق قطر الضخم من عائدات الغاز سيضمن لها تحقيق حلمها الاقتصادي فور انتهاء البطولة التي تستمر 28 يوما.
ولدى يونس شكوكه كذلك.. قال: "بعد كأس العالم ماذا سيحدث؟ هل ستزدهر التجارة أم تنحسر؟ لا نعرف".
ومن ناحية أخرى توفر دول في المنطقة مثل السعودية والإمارات أسواقا أكثر رسوخا وتنويعا أكبر جذبا للسياح.
لكن هذا لم يثنِ هذه الدولة الصغيرة الغنية عن إنفاق المال لتحقيق مكانة على الساحة الدولية. وفي ذروة ازدهار أعمال البناء في عام 2016، أنفقت قطر 18% من ناتجها المحلي الإجمالي على البنية الأساسية، وهو مبلغ ضخم يتضاءل أمامه ما أُنفق على التحضير لبطولات كأس العالم السابقة.
فقد أنفقت جنوب أفريقيا 3.3 مليار دولار على البنية الأساسية أثناء التحضير لبطولة عام 2010، في حين أنفقت البرازيل 11.6 مليار دولار على البنية التحتية لاستضافة الحدث في 2014، رغم أن نصف المشروعات الموعودة لم تتجسد على أرض الواقع.
لكن هذا ليس هو الحال على الواجهة المائية لمدينة لوسيل حيث افتُتح الشهر الماضي مركز بلاس فاندوم للتسوق والذي يضم 600 متجر.
ويحاكي المركز مناطق التسوق في باريس، وتصل إليه قناة مائية للمتسوقين الذين يصلون بالمراكب، ويحوي مطعما في الهواء الطلق، يطل على نوافير مياه راقصة، وجناحا للمتاجر الفاخرة يضم فرعين عملاقين لكريستيان ديور ولوي فيتون.
وقطر لم تنفق بسخاء على ملاعب كرة القدم وحسب، بل أيضا على القطارات السريعة وشبكة مترو الأنفاق وعلى ميناء على مياه عميقة ومطار ضخم.
لكن البعض يخشى أن تصبح هذه المباني الجديدة خاوية بعد انتهاء البطولة، مع رحيل الزوار المتوقع وانخفاض الطلب المحتمل وتباطؤ النشاط الاقتصادي غير المعتمد على الطاقة.
وقال روبرت موجيلنيكي الباحث المقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن: "الأمر يتطلب تفكيرا عميقا وجهدا كبيرا لتشغيل الكثير من هذه البنية الأساسية كي تخدم أغراضا أخرى بعد بطولة كأس العالم".
قال المسؤول الحكومي إن الدوحة ترى أن أول بطولة لكأس العالم تقام في منطقة الشرق الأوسط "قاعدة انطلاق تسويقية" للزوار في المستقبل.
وفي جنوب أفريقيا، قال المسؤولون إن بطولة كأس العالم لعام 2010 أطلقت ازدهارا سياحيا، وإن عدد الزوار زاد باطراد ليبلغ في أعلى مستوياته قبل جائحة فيروس كورونا 10.2 مليون زائر في 2019 عندما أسهمت السياحة بنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأنفقت الشركات الحكومية القطرية ومستثمرون من القطاع الخاص مليارات على مشروعات تجارية مثل مراكز التسوق والفنادق والعقارات والساحات الترفيهية.
قالت كارين يانج الزميلة في معهد الشرق الأوسط بواشنطن "إنها فلسفة ‘شيّد وسيأتون‘ للتنمية في الخليج".
وحلّت الأنفاق والطرق العلوية محل شوارع قطر المكدسة ذات الاتجاهين والميادين البريطانية الطابع، وزُرعت على جوانب الشوارع أشجار النخيل وأشجار المورينجا المزهرة والحشائش والجهنمية.
قالت يانج لرويترز"كل هذه الإيرادات بحوزة الدولة، لذلك لا يغضب الشعب إذا رأى إسرافا في بعض الأحيان أو لو لم تنجح بعض الأمور".
وحتى الآن، يقود ازدهار قطاع الإنشاءات الذي تشرف عليه الدولة النشاط الاقتصادي غير المعتمد على الطاقة. ويمثل القطاع 12% من الناتج المحلي الإجمالي وفقا للتوقعات الاقتصادية لجهاز التخطيط والإحصاء القطري لعام 2022-2023.
ويعمل بقطاع الإنشاءات نحو نصف القوى العاملة في قطر مما أسهم في زيادة عدد السكان بنسبة 67% منذ 2011.
لكن مع انتهاء هيمنة قطاع الإنشاءات سيتباطأ النشاط الاقتصادي غير المعتمد على الطاقة على الرغم من السعي لتنويع الاقتصاد الذي يهدف إلى بناء اكتفاء ذاتي.
وتقول شركات عقارية ومحللون عقاريون إن الطلب الراهن على الوحدات السكنية قوي ومن المتوقع أن يزداد قوة مع بدء البطولة لأن العديد من الشقق والفيلات الجديدة تم تجنيبها لاستضافة المشجعين، في 64 ألف غرفة على الأقل على مستوى البلاد.
لكن هناك مخاوف من أن تتكدس الوحدات الخالية في السوق لدى طرحها بعد البطولة.
قطر أكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم، وأصبحت إحدى أغني دول العالم من حيث نصيب الفرد من الناتج ويبلغ عدد سكانها 2.8 مليون نسمة، 85% منهم من المغتربين.
لكن توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن عدد سكان قطر سينخفض في السنوات التالية على البطولة بنحو 1.2% سنويا إلى 2.5 مليون نسمة في 2027.
ومن المتوقع كذلك مع انحسار ازدهار قطاع الإنشاءات أن يغادر الكثير من عمال البناء القادمين من جنوب آسيا والذين كان أسلوب معاملتهم وأجورهم محط الأنظار في إطار التحضير لبطولة كأس العالم.
ويقول أليكسيس أنطونيادس أستاذ الاقتصاد بجامعة جورج تاون في قطر إن البلاد ستفقد كذلك مهندسين ومصممين ومشرفين وغيرهم من المهنيين من أصحاب الأجور العالية الذين يعملون على مشروعات توشك على الانتهاء الآن.
وبالنسبة ليونس، صاحب متجر السلع في لوسيل، فإن ذلك مبعث قلق. فيقول: "ربما تصبح هذه مباني خالية بعد كأس العالم. لا نعرف.. أترى كل هذه الشقق؟ هناك الكثير جدا من الوحدات السكنية هنا".
وفي حين يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد القطري بمعدل 3.4% هذا العام بفضل النشاط المرتبط بكأس العالم، تشير التوقعات إلى تباطؤه إلى 1.7% في 2024.
وحتى إذا لم يؤتِ الاستثمار في الاقتصاد غير المعتمد على الطاقة ثماره، فإن الغاز كفيل مرة أخرى بدعمه. فقد فاقمت الحرب الروسية الأوكرانية من أزمة طاقة عالمية، مما عزز الطلب على الغاز الطبيعي المسال.
لكن أنطونيادس يقول إن العمل في قطر أبعد ما يكون عن الانتهاء. وأضاف: "كنا نتوقع أن يتباطأ الاقتصاد.. لكن الآن جاء وقت انفتاح قطر على العالم واجتذاب المواهب والشركات واجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والسياح".