كتب:اسلام عماد
عندما تفجرت الموجة الأخيرة من المواجهة بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل في الثامن والعشرين من رمضان، صاحب هذه المواجهة موجة جديدة من الجدل داخل أوساط الرأي العام العربي لا سيما بين الجامعيين والنخب المتعلمة، بين أكثرية تعترض بشدة على دخول حركة حماس على خط المواجهة، وأقلية تؤيد دخول حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية المسلحة لساحة المواجهة على أمل تحقيق نتائج أفضل أو تحريك مياه القضية الآسنة.
وجهة نظر الفريق الأول، كانت ترى أن خوض حماس 4 مواجهات كبيرة سابقة وعشرات الالتحامات الدورية مع إسرائيل واللجوء إلى استخدام الصواريخ لم يؤد في أغلب الحالات إلى نتائج عسكرية أو ميدانية تذكر بل كان مبررا لإسرائيل أمام العالم على استعمالها العنف المفرط مع مدنيي غزة، وبالتالي فإن استخدام نفس الأسلوب مرة أخرى لن يؤدي في الغالب إلا إلى نفس النتيجة.
مع هذا وعلى عكس التجارب السابقة والتوقعات المتدنية فقد أدى استخدام حركة «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى لتكتيك الصواريخ لنتائج عسكرية مفاجئة هذه المرة، قادت لعدد من المكاسب السياسية الحقيقة للقضية الفلسطينية على رأسها إعادتها إلى بؤرة اهتمام الساسة حول العالم.
فكيف أدت صواريخ حماس هذه النتائج رغم أن جل التحليلات «العربية» كانت تتوقع العكس.
قبل الإجابة عن هذا السؤال علينا أولا أن نرجع إلى مراحل سير هذه المواجهة في أيامها الـ11، فهذه المواجهة بدأت من المراحل النهائية للمواجهات الاعتيادية بين حماس وإسرائيل وليس بالتدريج من الضربات الأقل تأثيرا ثم الأكبر فالأكبر.
وهنا نلاحظ أن أول صواريخ أطلقت من غزة كانت باتجاه القدس الغربية –مركز الثقل الديني لإسرائيل- قبل أن تتجه الصواريخ صوب أهداف أخرى لا تقل من حيث الأهمية السياسية والاقتصادية مثل تل أبيب وعسقلان والنقب وضواحي إيلات وما في نطاق هذه الحواضن الإسرائيلية الكبرى من مستوطنات وبلدات.
ولهذا كان ولهذا كان أثر هذه الصواريخ كبيرا على الداخل الإسرائيلي لا سيما أن منطقة كتل أبيب تعرضت لقصف بالصواريخ بشكل دوري شبه مجدول على مدار أيام الحرب الـ11 ما دفع أكثر من 3 ملايين إسرائيلي على أقل تقدير –نصف عدد السكان- إلى البقاء لساعات طويلة بالملاجئ.
وللمفارقة فإن هذه المنطقة لم تتعرض لهجمات تذكر منذ رحيل آخر جندي عربي عنها في أواخر 1949م، اللهم في بضع مناسبات لا تكاد تذكر ويكون العقاب الإسرائيلي عليها قاسيا جدا.
ولهذا فإن صواريخ الفصائل الفلسطينية نجحت إلى حد بعيد في الوصول إلى أهداف لم تصلها جيوش العرب مجتمعة في تاريخها مع رد فعل إسرائيلي باهت إلى حد كبير، الأمر الذي جعل قبول إسرائيل بإنهاء هذه المواجهة على وجه السرعة والارتضاء ولو بشكل مؤقت بالإبقاء على الوضع الراهن في القدس وتخفيف قبضة الحصار عن قطاع غزة أمرا مفهوما ومقبولا.
أما وجهة النظر النخب العربية وتشكيكهم في جدوى هذه الصواريخ، فالسبب في ذلك لا علاقة له بشكل كبير بقدرة المقاومة الفلسطينية أو ممارسات الاحتلال الإسرائيلي العنيفة، بقدر ما هو مرتبط بالمواطن العربي نفسه وتجاربه وآلامه الخاصة.
فعلي مدار 10 سنوات تقريبا عاش سكان 9 عواصم عربية على الأقل تحت وطأة الصواريخ الباليستية والأحزمة الناسفة والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية والطائرات المسيرة والقنابل الذكية منها والغبية وهدير الرصاص المرسل بلا هدف سوى أكبر قدر من القتل.
كل هذه الأشكال من العنف والقتل التي عاشها المواطن العربي في بلده سواء من الحكومات القائمة بمؤسساتها أو الجماعات الراديكالية بتنظيماتها أو حتى الحلفاء القادمين من أعالي البحار جعلته ينظر إلى ممارسات الاحتلال الإسرائيلي مع الفلسطينيين على أنها نزهة ربيعية جميلة يعيشها الفلسطينيون مقارنة بما يقاسيه هذا المواطن في وطنه تحت مظلة الحكومات الوطنية، وكذلك فإن تأثير ترسانة صواريخ المقاومة الفلسطينية مجتمعة من التدمير أو حتى التخريب لن يكون أبدا في مثل قوة تأثير القنابل الروسية التي ألقيت على مدينة حلب السورية في يوم واحد، أو تأثير صواريخ جماعة الحوثي على المدن غير الخاضعة لسيطرتهم.
ولن تكون قوة هجوم جيش إسرائيل على غزة أبدا مثل القوة التدميرية الهائلة لهجوم قوات المشير خليفة حفتر على عاصمته طرابلس، وأيضا لم يرتكب جيش إسرائيل مجزرة في يوم واحد مثل تلك التي فعلتها صواريخ نظام بشار الأسد الكيماوية في الغوطة الشرقية في صيف العام 2013.
الحقيقة أن هذا ليس تبرئة لساحة إسرائيل من جرائمها منذ قبل قيامها وحتى اليوم والتاريخ يشهد والشعوب لا تنسى، ولكنه إقرار بواقع أليم يعيشه المواطن العربي في كل قطر تقريبا، جعل الاحتلال الخارجي الذي هو أسوأ ما في العلاقات الدولية من أشكال، يعتبر سحابة صيف رطبة مقارنة مع ما يعيشه من بؤس في وطنه تحت وطأة هذه الظروف والمعاناة.
ولهذا فكما أن المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية الأخيرة أعادت إحياء قضية فلسطين في أروقة السياسة وقصور الحكم وبنبض الشارع العربي، فقد أعادت أيضا التذكير بواقع أليم غير مسبوق يعيشه المواطن العربي في أيامنا تلك.