حسن إسميك يوضح الفرق بين العلمانية الغربية الموجودة وعلمانيتنا المنشودة

الثلاثاء 01 ديسمبر 2020 | 08:35 صباحاً
كتب : بلدنا اليوم

تعد “العلمانية” مفهوماً مثيراً للجدل في الأوساط الفكرية العربية، ويشغل حيزاً كبيراً من أدبياتها منذ مطلع القرن العشرين. إلا أنه جدل عقيم لا يفتح الباب أمام التقدم بل يجعلنا نراوح في المكان نفسه، فيما تنتقل المجتمعات الغربية، في أوروبا خاصة، إلى مرحلة جديدة من العلمانية، تهدف من خلالها إلى بلوغ حالة المجتمع المتناغم والمنسجم بكليته.

نشأت العلمانية كما نعرفها في أوروبا، حتى أن الممارسات “العلمانية” بدأت قبل ظهور المصطلح، إذ سُجلت أولاها عام 1648 أي بعد حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، حين نُقلت ملكية أراضي الكنيسة إلى الدول. ومع الوقت باتت “العلمنة” تعني في المقام الأول العملية التي يتم فيها تقليل تأثير الكنيسة على الحكومة والمؤسسات والأفكار والسلوك.

إلا أنها لم تكن منذ نشأتها معادية للدين كما يزعم معظم مناهضيها، بل كانت ضدّ المؤسسة الدينية وتعسفها في استخدام ما منحته لنفسها من سلطات. ولم تنحصر قيادة الحراك العلماني بأشخاص لا دينيين أو ملحدين بل على العكس، كثيراً ما تصدره أشخاص متدينون جداً، فمثلاً تعدُّ البروتستانتية قوة علمانية، على الرغم من أنها ساهمت في البداية بزيادة التدين والولاءات الدينية، سواء بين البروتستانت أو بين الكاثوليك الذين تأثروا أو رفضوا حركتها الإصلاحية.

في نهاية المطاف، ساعدت كثرة الطوائف، بما فيها بعض المجموعات الليبرالية، والإرهاق الذي اعترى أوروبا كلها جرّاء الحروب الدينية، على انتشار العلمانية، ورفض الحق الذي ادعته الكنيسة للتدخل في تقرير مصائر الناس، كما بدأ التسامح الديني يتطور على يد الحكومات التي أخذت تعترف بمختلف المعتقدات الدينية، وغير الدينية أيضاً.

شجع ظهور الدول القومية على تكريس العلمانيةَ، إذ اعتُبر التدخل أو الولاء لمؤسسات فوق وطنية تعارضاً مع أولويات وسيادة “الدولة الأمة”. كما أن التحديث السوسيواقتصادي وقيام الثورة الصناعية ساهما بتكريس المساواة بين الجميع، في الواجبات وفي الحقوق. ولقد كافحت الدول القومية لرفع هيمنة الكنيسة عن المدارس والقانون والمؤسسات الاجتماعية، ونجحت في ذلك. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كانت أفكار النخبة علمانية بالعموم، وفي مختلف المجالات في البيولوجيا (تشارلز داروين وتوماس هكسلي)، وفي علم الاجتماع حديث النشأة (أوغست كونت وإميل دوركهايم وماكس وفيبر)… كما بدأت الحركات الحقوقية بالنشاط، وعلى رأسها الحركة النسوية التي طالبت بحقوق المرأة بالملكية والعمل والمشاركة السياسية وسيادة نفسها.

مثلت كلّ هذه الإجراءات والدعوات والحركات عاملاً حاسماً في رسم صورة أوروبا الحديثة، ونموذجها الرائد في الرفاهية والتحضر والتطور واحترام القانون وحقوق الإنسان والحريات العامة.

بالمقابل.. في العالم العربي والدول الإسلامية عموماً، لم تنتشر العلمانية على نطاق واسع، إذ عدها كثيرون “عداءً للدين” ورفضاً لمبادئ الإسلام، ووصل بهم الأمر إلى اعتبارها الخطوة الأولى على طريق الانحلال الأخلاقي وتدهور القيم في مجتمعاتنا. ورُفضت الحداثة لأنها تؤدي إلى العلمنة بالضرورة. وكثيراً ما كان مناهضو العلمانية يتذرعون بفشل تجارب في هذا المجال قامت بها بعض الدول العربية من دون أن ينتبهوا إلى أن سبب الفشل الرئيس في تلك الحالات لا يعود إلى مشكلة في مفهوم العلمانية ذاته، بل إلى أن من تشدق بالعلمانية من النظم العربية التي كانت في الغالب استبدادية حاولت فرض علمانيتها بالإجبار والإكراه، فأفرغت هذا المفهوم من جوهره وهو الحرية، ولم تنتج إلا المزيد من التخلف والفقر وعدم الاستقرار وهي كلها تعتبر البيئة المثلى لانتشار التطرف.

واليوم، تشهد أوروبا تطوراً حاسماً في مفهوم للعلمانية، ولَّده التنوع الديني والثقافي الكبيرين اللذين تعيشهما نتيجة توافد المهاجرين؛ فلم يعد الأوروبيون كاثوليك وبروتستانت ويهود فقط، بل مسلمون وهندوس وبوذيون … أيضاً. وبعدما كانت العلمانية تتمحور حول السيطرة على أذرع المؤسسة الدينية وفصلها عن الشؤون المدنية والسياسية، باتت اليوم تهتم أكثر فأكثر بإدارة التنوع بطريقة عادلة وديمقراطية، فتضمن أولاً وقبل كل شيء حريات الأفراد، الاجتماعية منها والسياسية والدينية كذلك. وتتشكل اليوم في الدول الليبرالية “علمانية جديدة”، تهتم بجوهرها بالتنوع، وتنخرط بالتالي في قضايا التعددية الثقافية.

لا تؤدي الحداثة، ولا العلمانية الكامنة فيها، إلى تراجع الدين، ولا إلى تدهور قيم المجتمع، ولنا في دول مثل فنلندا والنرويج وسويسرا خير دليل. فهذه تتربع على عرش الدول الأكثر استقراراً وتماسكاً في العالم، بحسب مؤشر الدول الهشة (الدول الفاشلة سابقاً) الذي يرى أن استقرار هذه الدول الثلاث هو الأكثر استدامة في العالم.

هكذا تعتبر فنلندا والنرويج وسويسرا المثال الأعلى في الرفاه واحترام الحريات والحقوق والعدالة الاقتصادية. ورغم أنها دول علمانية فالدين مازال يحافظ على مكانته فيها. لذلك آن الأوان مجدداً لإعادة النظر في اتهام العلمانية بالعداء للدين، فلقد بعث الله برسالاته السماوية منذ آلاف السنين، ومازالت قائمة تنير الطريق أمام المؤمنين وتوجههم إلى جادة الصواب في حياتهم، وستظل تفعل، من دون أن تتأثر بأي حركة ظهرت في الماضي أو ستظهر في المستقبل. ونصرة الدين لا تتحقق من خلال التطرف فيه أو فرضه على الآخرين، أو حتى في معاداة الحركات المدنية، فالإيمان الراسخ يتعزز بقبول الآخر والتسامح والمحبة.

في هذا السياق، لا يمكننا أن نتجاهل دور العلمانية الغربية الضامن لانتشار الإسلام في نصف الكرة الأرضية الشمالي، ولحقوق المسلمين في ممارسة شعائرهم وطقوسهم وبناء مساجدهم في الغرب كله. ونحن إذ نطالب الغرب باحترام حقوق المسلمين المهاجرين إليه وكفالة حرية الاعتقاد لهم، فإننا نستند في مطالبنا هذه إلى علمانيته، لذلك لا يحق لنا أن نشن كل هذه الحرب على العلمانية في بلادنا. وإذا كنا نرفض اليمين المتطرف الغربي المعادي للمهاجرين خصوصاً المسلمين منهم، فكيف نتبنى نحن ما يشبه سياساته في بلادنا؟!.

ثم أليست العلمانية خياراً أفضل من الإسلام السياسي، الذي يتجلى في استغلال تركيا مثلاً للدين الإسلامي بهدف تحقيق غاياتها السياسية على حساب المسلمين أنفسهم؟ أو يتمثل في ما تشهده إيران التي تدعي أنها “جمهورية إسلامية” وتصل فيها مستويات الإدمان وانتشار المخدرات والكحول مستويات هائلة؟.

بالمقابل.. لقد استطاعت الدول الغربية أن تخرج من مسمى “العالم المسيحي” في حين مازالوا يعرفوننا بـ “العالم الإسلامي” أو “الدول الإسلامية”. وافتخارنا بهذه التسمية لا يلغي أنها اختزال لهويتنا إلى مكون واحد، نحن الذين نتغنى منذ القِدم بالتنوع الذي يتمتع به مجتمعنا، وبحضارتنا التي استطاعت أن تتشرب كلّ ما سبقها وتكون إشعاعاً تنويرياً لكلّ ما تلاها من حضارات.

يتذرع كثيرون من رافضي العلمانية بأنها منتج غربي لا يناسبنا، وربما يكون هذا صحيحاً، خاصة على مستوى بعض المفاهيم والإجراءات التفصيلية والخطوات التطبيقية، فماذا نفعل؟ هل نقف في مكاننا ونترك ركب التطور والحداثة يفوتنا، أم نصنع “علمانيتنا” الخاصة ونحدد معالمها المناسبة لمجتمعاتنا والأهداف التي نريد تحقيقها من خلالها، كأداة لحصر السياسة بأهل السياسة، ولمواجهة كلّ من يوظف الدين لغايات عدوانية، ولاحترام الآخر والتعايش البنّاء معه، ولتعزيز التعددية الثقافية التي تسم عالمنا العربي، ولمحاربة كلّ أشكال التطرف.

هذه العلمانية ستضمن ألا يتكرر ما حدث في لبنان أو في العراق، وأن تفقد التنظيمات الإرهابية أي أرض خصبة في بلادنا للتجنيد أو للانتشار، وألا يخسر الشرق مكوناته الثقافية الرئيسية كالمسيحيين واليهود، وأن يظل الدين مصاناً من كلّ تطرف وتعصب، وأن يشعر كلّ عربي في بلده أنه مواطن من الدرجة الأولى.