البداية كانت في جلسة الصباح التي جمعتني بوالدي قبل ساعات قليلة من بداية الفصل الدراسي الأول في مدرستي الابتدائية، تحدثنا قليلًا عن أهمية الانخراط داخل مجتمعي التعليمي الجديد وعن وجوب طاعة الُمعلمين جميعًا لكي أنال اهتمامًا خاصًا بي ومن ثم انتقلنا سريعًا إلى وضع خطة محكمة تُمكنني من الاستحواذ على أحد المقاعد في الصف الأول.
شرح لي والدي كيف أستطيع فعل ذلك بسهولة تامة ووقفت والدتي التي كانت تتابع الحديث بحذر شديد صامتًة لعدم تشتيت انتباهي، وبعد نهاية الجلسة انطلقت وأنا مُفعم بالحماس للحصول على ذلك المقعد الأشهر وجعل والدي ووالدتي فخورين بي قدر المُستطاع.
هل كان ذلك قبل بداية الطابور المدرسي أم بعد نهايته مباشرة؟، في الحقيقة لا أتذكر تحديدًا متى ولكن بالتأكيد أستطيع أن أروي كيف حدث هذا الإنجاز بكل تفاصيله، فمعاناة أن أكون أحد هؤلاء المحظوظين بالجلوس في أول مقعد داخل الصف يبدو الآن أنها ترتقي لأن تُصبح ملحمة تتوارثها الأجيال مثلًا، والأمر سار بسهولة على غير المتوقع نظرًا لأن خطة والدي لم تكن تحتاج إلى تدخله شخصيًا عكس خطط باقي الأباء التي فشلت قبل أن تبدأ حينما أعلن السيد المدير عدم السماح للأهالي بالدخول إلى حرم المدرسة، ليترك لنا مساحة كاملة من النزاهة والمساواة.
يوم العملية.. البحر من خلفي والمقعد أمامي
وبعد كل ذلك وبمجرد أن وصلت إلى باب الفصل كنت قد أخرجت بالفعل حقيبتي المتهالكة القديمة من داخل حقيبتي الجديدة، وفعلت ما تدربت عليه مرارًا لمدة ساعة كاملة مع والدي إذ ألقيت بها على المقعد المنشود ولمن لا يعلم فإن ذلك يعني بالتأكيد أنه أصبح ملك لي، ليهرع الجميع بغية تحقيق نتائج قريبة من نتيجتي المُذهلة فيما تقدمت أنا إلى مقعدي في كبرياء بعد أن تمكنت بذكاء من الحصول على المقعد وأيضًا لم أخسر حقيبتي الجديدة.
مرت سنوات على تلك الواقعة المُهيبة، وكلما بدأ فصل دراسي جديد كنت أتمكن مجددًا من الحصول على ذات المقعد، ولكن ما أن ذهبت إلى المدرسة الثانوية حتى صُدمت بواقع جديد، فبينما أنا كنت أقضي ليلتي في وضع خطة جديدة لنيل المقعد الأول فوجئت في اليوم التالي بالجميع يتقاتلون من أجل الحصول على أحد المقاعد الأخيرة في الصف، ولم يمر وقت كثير حتى أصبحت مثلهم أبحث عن الهدوء بعيدًا عن أعين المُعلم وأسئلته المُتكررة عسى أن تمر ساعات الدراسة اليومية لأكمل ما تبقى من يومي بين التسكع مع رفاقي والدراسة الحقيقية في المنزل فقط.
والقاعدة معلومة.. مقعدنا في الجنة ومقعدهم في النار
وبالنظر إلى الرحلة كاملًة، فيمكن أن نضع قاعدة شهيرة سار عليها معظم أبناء جيلي على الأقل، حينما كنا صغار كنا نبحث عن المقعد الأول وعندما كبرنا صرنا نلجأ إلى كهوف المقاعد الأخيرة، وبين ذلك وهذا كنا نُسمى بسعداء الحظ إذا ما صدف رقم جلوسنا مقعد عشوائي في المنتصف أثناء الاختبارات الهامة للابتعاد ولو قليلًا عن الصفوف الأولى والأخيرة حيث يُمكنك أن تلاحظ مراقبي اللجنة يتخذون من تلك البقاع مركزًا للجلوس في ترقب شديد للجميع.