منذ بداية الحرب في اليمن عام 2014 حتى نهاية 2018، أكلت في طريقها الأخضر واليابس، لم تترك صغيرًا أو كبيرًا، امرأة أو طفل، شرّدت الملايين وقتلت الآلاف بالجوع والرصاص، كان أكثر الضحايا من تلك الحرب هم الأطفال، هؤلاء الصغار الذين لا يعلمون عن السياسة ولا السلطة شئ، أهدافهم لم تتجاوز الذهاب للهو واللعب لكن اليوم، شابوا وباتوا رجالًا قبل آوانهم، فهاهم أصبحوا بين قتيل وجريح ومشرد وجندي يحمل السلاح رُغمًا عنه على الجبهة.
كعادته خرج من منزله صباحًا ودعته والدته، طلبت منه أن يكون حذرًا في الطريق، وأن يذهب مباشرة إلى المدرسة، لم تدر الأم أنّ هذا الوداع سيكون الآخير لها ولن تتمكن من رؤية صغيرها مرة ثانية، فقد نالت الحرب من بلادهم أكلت اليابس والأخضر في طريقها حتى طالت أيضًا فلذات أكبادهم.
جمال محمد طفل يمني يبلغ من العمر 14 عامًا، من منطقة أنس محافظة ذمار وسط اليمن، كان جمال ينتمي لأسرة مستقرة ماديّا، وضع جيد في ظل الحرب، فبالرغم من القتال الدائر في منطقته إلّا أنّ هذا الأمر لم يمنعه من الذهاب إلى مدرسته يوميّا.
"كنا بننتبه للمعلم فجأة دخلوا علينا وطالبونا نخرج معهم" جلس جمال ورفاقه بالفصل في انتظار أن يبدأ معلمهم الدرس، وفي لحظات معدودة تفاجأ الأطفال بوجود أشخاص ملثمين يحملون أسلحة في أيديهم يقفون بجوارهم، الهلع والخوف بدا واضحًا على ملامح الصغار، سؤال تبادر لأذهانهم ماذا يريد هؤلاء؟، وبصوت أجش طلب أحدهم من الأطفال الذهاب معهم لحضور جنازة شهيد مقابل إعطائهم بعض الأموال على أمل العودة سريعًا للمدرسة.
لم يكن أمام الأطفال اختيارات سوى الذهاب مع هؤلاء فلو رفض أحدهم من الممكن أن يعرض نفسه للقتل، خاصة وأنّ آبائهم يخبروهم دائمًا أن يحذروا من ميليشيا الحوثيين، لأنّ السلاح هو حديثهم الوحيد، على الفور همّ جمال برفقة 10 من أصدقائه بالفصل وذهبوا معهم.
حمل الرجال الأطفال على ظهر عربة وذهبوا بهم بعيدًا عن مدينتهم إلى مدينة مأرب، وتركوهم في غرفة مغلقة تحت الأرض "بدروم"، وعلى مدار مايقرب من 30 يومًا كانت تلك الميليشيات تعمل على تدريب جمال ورفاقه الأمور العسكرية، من رماية وفك أسلحة ووضع ألغام وغيرها من معدات الحرب.
وبعد انتهاء الشهر سلموهم سلاحًا ونقلوهم إلى معسكر آخر على أطراف المدينة، وأخبروهم أنّ غدَا سيذهبوا جميعًا للقتال على الجبهة، الأمر الذي نزل كالصاعقة على الأطفال أي جبهة التي يريدوا هؤلاء الرجال أن يحاربوا عليها، الجميع تيقن أنّ الموت مصيره لا محالة سوى جمال والذي قرر الفرار من هذا الميدان المزيف.
لم يخلد الصغير للنوم كغيره من أطفال المعسكر، فقد كان يخطط لأمر ما، وقبل آذان الفجر بدقائق معدودة تسلل من خيمته وتوجه بحركات بطيئة إلى سور المعسكر خوفًا من أن يراه أحد الجنود المكلفين بالحراسة ليلًا، فور اقترابه من السور حاول تسلقه خاصة وأنّه لم يكن مرتفعًا بقدر كبير مما مكّنه من نجاح مهمته، وبعد خروجه إلى الجانب الآخر أسرع يتحثث قدماه في الظلام الدامس يتسلل في مجرى بين الجبال يمر فيه السيل، حتى ابتعد لمسافة كبيرة عن المعسكر، فبدا التعب والإجهاد عليه حتى غلبه النوم بجانب إحدى الأشجار، وبعد ساعات استيقظ من جديد ليستكمل طريقه عسى أن يجد من ينقذه، حتى التقى بأحد الرجال فسأله عن وجهته فقص له الصغير عن ما حدث له، ليقرر الرجل تبنيه مع أولاده والذهاب معه للعيش بمدينة الزور القريبة من مأرب.
حاول جمال البحث عن أسرته لكن بسبب الحرب والصراع في مدن اليمن لم يستطع الذهاب إليهم، الأمر الذي أثر نفسيًا على الصغير، مما دفع الرجل الذي تبناه للذهاب به إلى أحد المراكز التأهيلية، والذي من خلاله بدأ يبحث عن أسرته مجددًا، والتي تعيش في مدينة ذمار بينما هو يقطن في مأرب عند أحد أقاربه، لكنّه استطاع التواصل معهم تليفونيّا .
كان جمال يحلم بأن يصبح معلمًا لكن الحرب في وطنه جعلته يفقد شهية العيش فقرار الفرار لم يكن سهلًا على الطفل، فالموت كان سيكون مصيره في كلتا الحالات لكنّه فضل الموت بشرف المحاولة إلّا أنّ القدر شاء أن يفر بسلام.
"عبد الإله" وقصة اللعبة التي أفقدته يداه
لم يختلف الوضع كثيرًا مع عبدالإله الطفل صاحب الحادية عشر من عمره، قبل بداية الحرب في اليمن كان الصغير يعيش حياة مستقرة برفقة والده وأخواته في مدينة خولان، يذهب إلى المدرسة صباحًا ويعود مساءًا للمنزل، يلعب برفقة أصدقاء الحي، نادرًا ما كانوا يستمعون إلى أصوات الرصاص أو القنابل.
بعد فترة قليلة من بداية الحرب اشتد النزاع بالمنطقة التي يسكن بها عبد الإله، مما دفع والديه للنزوح هربًا من القصف، فخرج الصغير برفقة أسرته إلى محافظة مأرب وسكنوا بمنطقة تسمى محطة الخير، على أمل أن يستقروا بها كونها كانت في ذلك الوقت بعيدة عن النزاعات المسلحة.
قبل عامين من اليوم، وبعدما نزح عبدالإله برفقة أسرته إلى مأرب، تلك المدينة التي لم تخلوا هي الأخرى من الإرهاب وأصوات الرصاص والقنابل، يوم يتذكره عبد الإله جيدًا لن يستطيع محوه من الذاكرة، الطفل كان يسير في طريق العودة للمنزل وقعت عيناه على علبة كرتون وضعت بجوار إحدى المباني، فقرر الحصول عليها، حملها في يده وعاد مسرعًا للمنزل علّه يفتحها ليفحص ما بداخلها.
كان خائفًا من محاولة فتحها، فقرر الذهاب إلى والده وإخباره بما حدث لكنّ والده كان نائمًا، فلم يتردد الطفل ذو الحادية عشر عامًا أن يقوم هو بتلك المهمة وأن يفتح العلبة، حملها وصعد لأشقائه الذين كانوا يلهون على سطح المنزل بداخل خيمة صغيرة صنعوها بأيديهم للعب، لم تكن عملية الفتح مهمة سهلة، لكن إصرار عبد الإله على فتح العلبة جعله يحاول يفعل أي شئ، ظنّ أشقائه في البداية أنّ شقيقهم الصغير يلعب فاقتربوا منه والشغف يملأ عيونهم، الجميع في انتظار السر الخفي المتواجد بداخل تلك العلبة.
واستمرارًا لمحاولات عبد الإله لفتح العلبة رفع يده فوق رأسه انفجرت، فالشئ المجهول بداخل علبة العطر كانت عبوة ناسفة، شاء القدر أن تكون المسافة بين يد الصغير ورأسه إلى حد ما بعيدة أنقذت رأسه من التهشم، لكنّه فقد ذراعه الأيمن بالكامل، وأصيب عدد من إخوته.
استيقظ الأب فزعًا على صوت انفجار شديد، كاد أن يسقط جدران المنزل، همّ مسرعًا إلى السطح فإذا به يجد الدماء تغطي أبنائه بالكامل، وقف حائرًا يتنقل بين هذا وذاك يُحاول إسعاف كلّا منهم، بدأ الأب يحمل أبنائه بمساعدة عدد من جيرانه إلى المستشفى، والتي أخبرته أنّ ابنه الصغير عبد الإله سيتم بتر يده اليمنى من الرسغ.
بعد فترة قضاها عبد الإله في المستشفى عاد لممارسة حياته الطبيعية، لكنّ الحادث ترك أثرًا في نفسه، فلم يعد قادرًا على اللعب مع أصدقائه، يسير بالشارع ويعتقد أنّ الجميع ينظرون إليه ويسخرون منه، واجه صعوبة بالغة في دراسته.
"اشتهي يد اشتهي يد" جملة لا تنقطع من على لسان الصغير والذي بات يطلبها في كل وقت، يذهب إلى الطبيب يطلب منه يد يجلس في المنزل يتمنى من والده إعطائه يد، حالة الطفل النفسية كانت غير مستقرة مما دفع والده إلى إلحاقه بمركز تأهيل ودعم نفسي يضم الأطفال ضحايا الحرب اليمنية، لتأهيله ومحاولة محو الحادث من ذاكرته، إلّا أنّ الميليشيات كان لها رأي آخر فأطلقت صاروخًا بالقرب من المركز الذي يضم عشرات الأطفال، الأمر الذي أصابهم بالهلع الشديد، فقد هربوا من الحرب للاستقرار نفسيّا بداخل هذا المخيم لكنّ الرصاص يلاحقهم أينما تواجدوا.
وبكلمات كاد أن يصحبها بكاء، تحدّث الصغير عن حلمه فقبل الحرب كان حلمه وغيره من مئات الأطفال أن يصبحوا أطباء، لكن اليوم قضى الرصاص والنزاع على حلمهم وطفولتهم، فلم يعد حلم عبد الإله أن يصبح طبيبًا حلمه الكبير اليوم هو الحصول على"يد" .
هناك مئات الأطفال باليمن مثل جمال وعبد الإله، أطفال قضت الحرب على طفولتهم أمس كانوا يلهون ويلعبون واليوم بعضهم يحيا فاقدًا جزء من جسده وآخرون يحملون السلاح على الجبهة للقتال وكثيرون مشردون بلا مأوى يبحثون عن ذويهم.
ضحايا أطفال اليمن خلال الفترة من سبتمبر 2014 إلى نهاية 2018
أطفال مدنيين
1560 قتلى
3937 جرحى
279 اختطاف
21 تعذيب
ضحايا التجنيد
12000 تجنيد اطفال
3216 طفل قتلوا في المواجهات أثناء قتالهم بصفوف جماعة الحوثي
هذه الإحصائية عن مؤسسة وثاق للتوجه المدني