سيلڤانا ماجد تكتب: رُوحُ الرَّابِعَةِ

الاربعاء 08 اغسطس 2018 | 11:02 صباحاً
كتب : بلدنا اليوم

كنت آنذاك ابنة الرابعة ، أربع أعوام تنبض بالطفولة ، تضخ إلى الدنيا أحلاما وتزرع بين الدروب من البراءة سنابل وحقولا إِنه ميلاد الرابعة ، به زرعوا بين أحداق الطفولة طيورا أَنشدتها قهقهاتنا الثَملى .. كل الأطفال من حولى يُشاطرونني طيش العمر .. لطيش الرابعة طعم مُغاير مختلف ، به جسد صغير ينبض بالطاقة ، يولدها في نظرة ، في غمزة نحو أصحابه ، ويستمدها من أمله ، من تلك الجِباه التي تغني للفصول ، للطيور ، للأيام ، للأُم والصداقة .. يقتنيها من عبق طفولته النظيف ويطلق العنان لطيش شقي جريء ، طيش يدعي الحب كالكبار ويهمس سرا في أُذُن أصحابه عن من يحب.

 

 

 

كنت يومها طفل المناسبة ، وأي ثقة تلك التي تمنحها كعكة العيد وبالوناته ، أَي قوة يشيدها فستان أَحمر وأطفال ورقص وغناء .. وأي ثقة ، أي سُلطة تلك التي دفعتني في لحظة ما على جمع كلِّ البالونات وإخفائها عن عيون الحاضرين ، كأنما طيشا أنثويا طارئا ضرب بمعوله في جَنَباتِ عقلي فرُحت كالقطة أجمع البالونات كلها، وإلى غرفتي تحت السرير أدسُ ممتلكاتي لأُخفيها ، بعدها أقفلت بالمفتاح الباب وقد انمحق كلُّ أَثر لمفتاح أو بالون.

 

 

سارت الأمور كما يُرَادُ لها، وكادت الحفلة تنتهي دون أي مشكلة، كل الأطفال غادروا إِلا إحداهن أبت أن تغادر دون بالون

أين البالونات تساءلت أَمى أيُعقل لم يتبقَّ أي بالون!؟ وراحت تُشيُعُ عينيها في المكان، ولكن لا أثر!

كنت آنذاك أتدثر في عباءة  قصرالسمع ، كل شيء يدور من حولي وأنا كقطعة خرساء لا أنبس ببنت شفة!

وكل الدلائل تُشير إلي، اقتربت أمي وسألتني : " أين البالونات ؟."

 

 

إن الطفولة تُجيد الطيشَ لكنها لا تجيد الكذب قلت لها : " البلونات كلها معايا وانا خبيتهم ومش هدي حد حاجة "!

باشرت أمي بكل وسائل الاقناع ، بدءاً من مسألة المشاركة والصداقة بلوغاً لمسألة العيب واللاأخلاق، إلا أن موقفي لم يتغير: " مش هديها ولا نص بالونة " وتدخل والدي، ذاك القلب الحنون حاورني كما أحاور لعبتي، لاطَفَ طفولتي، ورغم كل ذلك لم أقتنع أن أمنحها بالونا.!

 

فِي خِضم عنادي وبعد محاولات أمي العقيمة لاقناعي بالأمر ضربتني ! واستخرجت مني مني مفتاح الغرفة...فتحتها وأخرجت البالونات من تحت السرير وسألت الطفل : أي لون تُريدين ؟ كانت تلك اللحظة هستيرية، يعلو في فكري ذاك الشعور الغريب! شعورٌ بالتساؤلِ: ألا يكفي أَنها ضربتني وأخذت مني مفتاح الغرفة عنوة ؟ أَيضا تمنحها إمكانية اختيار لون البالون!؟ غضب مخفوق بغلبةٍ ينتابني....شيء مُستهجن يسري في ذهني....أتلك هي أمي حقاً....وأنبت الشعورُ مخالبي حين رأيتها تُناول الطفلة بالونا على مرأى عيوني ! كيف تأخذ شيئا لي....شيئا لم أود أن أُعطيها إياه!؟

 

فرُحتُ كالقطة الشرسة أَعدو ورائها أصرخ وأَمسح الأدمُع المنكوبة الصريعة : " أَلا تستحين أن تأخذي شيئا ليس لكِ! ألا تملكين أبا ؟ دعيه يشتري لكِ بالونا كي لا تسرقين أشيائي.!

 

ومنذ أن صرخت، لا زالت الحياةُ تسرق مني عمراً وحباً، وقد امتدت يداها وصفعتني وأسالتْ من دمعِ العيونِ كثيراً، إأنها لا تصفع بحنان كأمي...بل بقسوةٍ بعيدةٍ كل البعد عن رحمة الأمومة....وقريبة أشد القرب من ألمِ الفقدان.!

 

ومنذ أن صرخت يومها، وقد تقطعت أوتاري وتَبَلَّدَتْ ساقي فما عُدّْتُ أعدو وها قد مر على الرابعة ثلاثون عاماً، لكنني أحسد روحي تلك التي كانت في الرابعة....كيف استطاعت أن تدافع بقوة عن فكرتها في وجود أشياء غير قابلة للمشاركة أو للفقدان....كيف استطاعت أن تُقاومَ كل وسائل الترويض التي تربصت بها.

 

كم أنا فخورة بها تلك الطفلة التي لم تصمت بالرغم من الفُقدان بل مسحت دموعها وانطلقت تصرخ ما فقدت ، وكم أنا اليوم في أمس الحاجة الى تلك الروح....روح الشجاعة....روح الرابعة.

اقرأ أيضا