لم يكن إطلاق النموذج الصيني DeepSeek R1 الشهر الماضي، مجرد حدث عابر في عالم الذكاء الاصطناعي، بل كان صدمة هزّت الأوساط التقنية، متسببةً في تراجع أسهم الشركات الكبرى وإثارة مخاوف بشأن تآكل الهيمنة الأمريكية في هذا المجال. ومع ذلك، فإن وصف هذه اللحظة بأنها "لحظة سبوتنيك" لا يعكس حقيقة ما يجري بقدر ما يكشف عن الهواجس الأمريكية المتزايدة. وفقًا لتقرير الجارديان
بين سبوتنيك وديب سيك.. فارق جوهري
في 4 أكتوبر 1957، أذهل الاتحاد السوفيتي العالم بإطلاق "سبوتنيك 1"، أول قمر صناعي يصل إلى المدار، مما شكل نقطة تحول في سباق الفضاء وأحدث زلزالًا جيوسياسيًا دفع واشنطن إلى إعادة هيكلة برنامجها الفضائي، ما تُوج في النهاية بهبوط البشر على سطح القمر عام 1969.
أما DeepSeek، المدعوم من صندوق تحوط صيني، فلا يمثل قفزة تقنية مماثلة، إذ إنه لا يتجاوز نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية الرائدة مثل ChatGPT أو Claude، سواء من حيث السرعة أو الدقة، كما أنه يعاني من ظاهرة "الهلوسة"—أي تقديم إجابات خاطئة أو ملفقة عند نقص البيانات, ووفقًا لتقييم NewsGuard، فإن روبوت DeepSeek قدم معلومات مضللة بنسبة 30% من الوقت، وامتنع عن الإجابة على 53% من الأسئلة، مقارنةً بـ 40% و22% على التوالي في آخر تدقيق شمل عشرة روبوتات محادثة كبرى.
هذه الأرقام لا تفضح فقط هشاشة جميع نماذج الذكاء الاصطناعي، بل تسلط الضوء على الطابع الرقابي لـ DeepSeek، إذ يرفض الإجابة على موضوعات تعتبرها الصين حساسة، مثل مجزرة تيانانمن أو مسألة تايوان.
التأثير الحقيقي.. اقتصاد الذكاء الاصطناعي وليس تقنياته
لا يكمن التأثير الأكبر لـ DeepSeek في ابتكاره التقني، بل في تداعياته الاقتصادية. فهو نموذج منافس لأبرز منتجات الذكاء الاصطناعي الحالية، لكنه بُني بتكلفة أقل بكثير ومن خلال تقنيات أقل تطورًا, والمفارقة أن القيود الأمريكية على تصدير أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين، والتي فرضتها إدارة بايدن منذ 2022 وتم تشديدها لاحقًا، لم تعرقل الطموح الصيني بقدر ما دفعته نحو حلول أكثر إبداعًا.
الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للشركات الغربية هو أن DeepSeek مجاني ومفتوح المصدر، مما يعني أن الجمع بين التكلفة المنخفضة والانفتاح قد يسرّع من دمقرطة الذكاء الاصطناعي، ويفتح الباب أمام منافسين جدد، لا سيما خارج الهيمنة الأمريكية التقليدية, وهنا تكمن المفارقة, في الوقت الذي تسعى فيه الصين إلى إتاحة التكنولوجيا، تستمر الشركات الأمريكية في إحاطة المجال بحواجز تنظيمية وتنافسية تعيق دخول منافسين جدد.
إزالة الهالة الأسطورية عن الذكاء الاصطناعي
لكن الأثر الأعمق لـ DeepSeek يتجاوز الاقتصاد إلى زعزعة الرواية التي تروجها وادي السيليكون حول الذكاء الاصطناعي, فقد سعت الشركات الكبرى إلى إضفاء طابع أسطوري على هذه التكنولوجيا، وتصوير شخصيات مثل إيلون ماسك وسام ألتمان على أنهم روّاد رؤية يقودون البشرية نحو مستقبل محكوم بالذكاء الاصطناعي.
في أبريل الماضي، توقع ماسك أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر بحلول نهاية 2025, كما زعم ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، أن شركته "تعرف كيفية بناء ذكاء اصطناعي عام" وهو نموذج يتجاوز القدرات البشرية في جميع المهام الذهنية, وأن أول وكلاء الذكاء الاصطناعي قد يدخلون سوق العمل في 2025.
منذ سنوات، حذر جيف هينتون، الحائز على جائزة نوبل في علوم الحاسوب، من أن تدريب أطباء الأشعة قد يصبح عديم الجدوى، لأن "الذكاء الاصطناعي سيكون أفضل منهم خلال خمس سنوات". بينما ادعى داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة Anthropic، أن الذكاء الاصطناعي قد يضاعف متوسط العمر البشري في غضون عقد.
لكن هذه التنبؤات، رغم رواجها، أخفقت مرارًا في التحقق، مما دفع بعض العلماء، مثل غاري ماركوس، إلى التحدي العلني لمزاعم ماسك، حتى أنه راهنه على مليون دولار بأن الذكاء الاصطناعي لن يتجاوز الإنسان, ومع ذلك، كلما تهاوت نبوءة، سرعان ما تظهر أخرى تحل محلها.
بين التكنولوجيا والمصالح الاقتصادية
الترويج لهذه المزاعم لا ينبع فقط من التقدم العلمي، بل يخدم أجندات اقتصادية وسياسية, فعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي قدم بالفعل أدوات قوية في مجالات متخصصة، مثل حل المعادلات الرياضية أو تحليل أنماط الأمراض، إلا أن نموذج الأعمال الذي تقوم عليه هذه الصناعة يعتمد على الضجيج الإعلامي أكثر من الابتكار الحقيقي.
فالضجيج هو ما يجذب الاستثمارات بمليارات الدولارات، ويمنح الشركات نفوذًا سياسيًا يمتد حتى إلى مقاعد حفل تنصيب الرؤساء, كما أن النهج السائد في تطوير الذكاء الاصطناعي يعتمد على التوسيع الكمي, بناء نماذج أكبر، باستخدام بيانات أضخم، وتشغيلها على قدرات حوسبة هائلة, بدلًا من تحقيق اختراقات نوعية.
هنا يأتي التحدي الذي يفرضه ديب سيك، إذ يبرهن على إمكانية مضاهاة أفضل نماذج الذكاء الاصطناعي باستخدام موارد أقل وتكاليف أدنى، مما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت استراتيجية "التوسيع اللانهائي" هي الحل الأمثل فعلًا.
ديب سيك بين الضجة والخوف الجيوسياسي
الضجة المحيطة بـ DeepSeek تعكس الهوس الإعلامي العام بالذكاء الاصطناعي، لكنها تكشف أيضًا عن توترات جيوسياسية عميقة, فلو كان هذا النموذج قد ابتُكر في جامعة أمريكية، لكان قد استُقبل بالترحيب دون أي حالة ذعر, لكن كونه نتاجًا صينيًا، أثار القلق في الأوساط الغربية.
لكن الهوس المفرط بالخلفية الجيوسياسية لـ DeepSeek قد يحجب دروسًا أكثر أهمية, فبدلًا من رؤية النموذج كفرصة لتعزيز الوصول المفتوح إلى التكنولوجيا، يتم التعامل معه كـ تهديد وجودي لمجرد أنه صيني, كما أن المخاوف المشروعة بشأن الخصوصية والرقابة، رغم وجاهتها، ليست حكرًا على الصين، بل تعاني منها جميع شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا.
في ظل تصاعد التوترات التجارية والتهديدات التي تواجه الديمقراطية العالمية، يصبح التفريق بين الضجيج والحقيقة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.