مزارع الجيزة مستمرة في استيراد "الأطفال" للعمل بظروف قاسية وتعريض حياتهم لكل أنواع المخاطر .. وأولياء الأمور شركاء بالجريمة
خبراء: الدولة عدلت التشريعات لتغليظ العقوبة لحماية الأطفال .. وعائلات تستغل كثرة الانجاب لتحويل أبناؤهم إلى ماكينات لتوفير عيشة كريمة للأب
قبل شهرين استيقظت مصر علي كارثة سقوط سيارة ربع نقل في نهر النيل من أعلي معدية منشأة القناطر والتي كانت تنقل 24 طفل ما بين صبيان وفتيات لتستقر في قاع النيل ليموت من مات وينجوا من نجا، لتعيد إلى الأذهان خطر تشغيل الأطفال دون السن القانوني وتعيد معها فتح ملف سخرة الأطفال في مزارع "الجيزة" حيث يتم استيراد الأطفال من محافظة المنوفية -القريبة وبالتحديد القري القريبة من نهر النيل- في سيارات ربع نقل وعبر معديات متهالكة يتم نقلهم للبر الآخر من محافظة الجيزة في ساعات الصباح الأولى لتعود بهم في المساء بعد رحلة عمل شاقة طوال اليوم تخللها كل الانتهاكات التي يمكن تصورها من ظروف عمل صعبة وتحرش وإهانة وتحت وطأة الفقر لا يستطيع هؤلاء الأطفال الحديث خوفًا من حرمانهم العمل.
تدق "بلدنا اليوم" ناقوس الخطر وتفتح ملف عمالة الأطفال بمزارع الجيزة وترصد وقائع سخرة للأطفال وتعريض حياتهم للخطر بداية من وسيلة الانتقال الغير آدمية وصولاً إلى سماسرة الترحيل الذين يجوبون القري بحثًا عن عمالة رخيصة دون سن الخامسة عشر وعبر صفقة غير مشروعة بين أب غير مسئول تخلى عن أطفاله مقابل المال تبدأ رحلة معاناة من أجل كسب لقمة العيش علي حساب الطفولة التي لا يعيشها هؤلاء الضحايا.
سمسار الترحيل
كانت البداية مع أحد العاملين بمزارع الجيزة والذى يعيش بالمنوفية وينتقل يوميًا من محل سكنة إلى المزرعة حيث يتم جلب أطفال من قرى وكفور مدينة أشمون الواقعة علي الطرف الآخر من محافظة الجيزة، فيقول "إسماعيل عبدالمنعم" صاحب الثلاثة وثلاثين عام: مزارع البر الثاني هكذا نسميها نحن أبناء المنوفية حيث يتم نقل العمالة داخل سيارات ربع نقل من محل الإقامة إلى محل العمل يوميًا في الخامسة صباحًا والعودة في السابعة مساءً، وبالنسبة للأطفال وسر الاعتماد عليهم في المزارع يعود إلى رخص ثمن الأجرة التي يتقاضاها الطفل مقارنة بالشاب، وعلي أقصي تقدير يحصل الطفل علي يومية 50 جنيه ويقوم بنفس مهام الشاب الذي يتقاضى 120 إلى 150 جنيه وصاحب المزرعة يبحث دائمًا عن الأرخص, خاصة وأنها خدمة للمزرعة أثناء دورة المحصول.
وتابع العامل قائلا:"هناك سماسرة مسئولين عن جلب الأطفال من القري حيث يتم الاتفاق مع ولي أمر الطفل وتسليم اليومية يكون لوالد الطفل وليس للطفل نفسة، وعمالة الأطفال مقسمة بين عمالة في الزراعة وعمالة في مزارع الدواجن والماشية والصوب الزراعية، والأسعار لا تزيد علي كل حال عن 50 إلى 60 جنيه للطفل عن اليوم الواحد والذى تمتد فيه ساعات العمل لنحو 12 ساعة متواصلة"، لافتًا إلى أن السمسار يجوب القري بسيارة ربع نقل في المساء للاتفاق مع أولياء أمور الأطفال علي خروجهم في اليوم التالي ويتم الاعتماد عليهم بكثرة في موسم الحصاد.
أطفال يتساقطون كورق الشجر
وعن عدد عمالة الأطفال بمزارع الجبل بحسب وصف المهندس مجدي المقنن، يقول بأن العدد غير محدد ولكن في الغالب لا يقل عن 10 الي 15 طفل للمزرعة الواحدة، فأصحاب المزارع يعتمدون على عدد أقل مقابل زيادة ساعات العمل لتوفير النفقات.
ويقول "المقنن" والذي عمل بمنطقة الريف الأوروبي بالجيزة وعمل على استصلاح الأراضي بمزارع الجبل التي يصفها بأنها أكثر المناطق اعتمادًا على عمالة الأطفال: وقت عملي بالجيزة كنت أرفض عمالة الأطفال واشترط على صاحب المزرعة ومورد العمال توفير عمالة شابة فوق العشرين عام, خاصة وأن العمل تحت أشعة الشمس ووقت الصيام كان صعب للغاية وبيئة العمل خطرة لا يمكن لطفل لم يبلغ عشرة سنوات العمل فيها حيث رأيت بأم عيني أطفال يتساقطون كورق الشجر نتيجة أشعة الشمس المحرقة في الصيف، ناهيك عن حالات الوفاة التي تحدث ولا يتكلم عنها أحد وولي الأمر لا يعنيه في المسألة برمتها سوي اليومية التي يأتي بها "مقاول الأنفار" كل يوم لينفق منها على المنزل، فهي تجارة ناجحة بالنسبة للأب الذي أنجب خمسة إلي سبعة أبناء وخرجهم من التعليم للعمل بالمزارع لتوفير دخل يومي له يتقاضاه وهو جالس في المنزل غير مقدر للمسئولية.
وتابع "المقنن" قائلاً:" قري وكفور المنوفية القريبة من الجيزة مصدر حيوي للحصول علي عمالة الأطفال للعمل بمزارع الجيزة ويمكن وصف بيئة العمل بالخطرة فأراضي الجبل المستصلحة حديثًا تخرج منها الثعابين والعقارب وهناك أطفال أصيبوا بلدغات سامة من قبل ولابد من وضع حد لتلك المهزلة التي كانت سبب في تركي للعمل بالجيزة والذهاب إلي مكان اخر فلم أكن لأسمح باستغلال الأطفال إلي هذا الحد.
الموت يرافقهم طوال الطريق
وحول نقل الأطفال من محل الإقامة لمحل العمل، يقول سائق واحدة من سيارات الربع نقل المخصصة لنقلهم ويدعي "م.ص" والذي قرر الإدلاء بشهادته عن عمليات نقل الأطفال شرط عدم الإفصاح عن هويته، مؤكدًا أن السيارة التي يعمل عليها مملوكة بالأساس لواحد من سماسرة توريد الأطفال ويتم نقلهم في ساعات الصباح الأولى قبل نصب كمائن الشرطة أعلى الطرق السريعة حيث يتم اللجوء للمعديات هربًا من الطريق الإقليمي الممنوع عليه نقل البشر داخل صندوق السيارة وهي المخالفة التي يترتب عليها سحب التراخيص وفرض غرامات، ومن ثم يكون البديل الطرق والممرات الضيقة بين المنازل والعبور من خلال المعديات النيلية.
وتابع قائلا:"السيارة الربع نقل تكون محملة بعدد 20 إلي 25 طفل وفي أحيان كثيرة يزيد العدد إلي 30 وترتيب الركوب يكون للأطفال الأكبر سنًا في الجانبان وأعلي الشبكة الموجودة فوق كابينة السائق وفي الوسط يكون الأطفال دون سن الخامسة عشر، وقيمة نقل الأطفال تكون علي نفقة صاحب المزرعة".
إجراءات رادعة
علي الجانب الآخر، يقول المستشار "أسامة الرخ "المحامي بالنقض والإدارية العليا :"أدخل مشروع القانون العمل الجديد، الذي وافق مجلس الشيوخ على بعض مواده، التعديلات المقررة في حالات تشغيل الأطفال، حيث نصت المادة 58 من القانون على عمالة الأطفال، وحظرت تشغيل الأطفال، وجاء نص المادة كالتالي: يحظر تشغيل الأطفال قبل بلوغهم 15 عامًا، ومع ذلك يجوز تدريبهم من سن 14 سنة بما لا يعوقهم عن مواصلة التعليم"، ملزمًا صاحب العمل الذي يستخدم طفلًا أقل من 16 عاما، بمنحه بطاقة تثبت أنه يتدرب مرفق بها صورة الطفل، وتعتمد من الجهة الإدارية المختصة وتختم بخاتمها.
كما حظر القانون، تشغيل الطفل أكثر من ٦ ساعات يوميًا، ويجب أن تتخلل ساعات العمل فترة أو أكثر لتناول الطعام والراحة لا تقل في مجموعها عن ساعة واحدة، وتحدد هذه الفترة أو الفترات بحيث لا يعمل الطفل أكثر من أربع ساعات متصلة، ويحظر تشغيل الطفل ساعات عمل إضافية أو تشغيله في أيام الراحة الأسبوعية والعطلات الرسمية.
ألزم قانون العمل، أخذ رأي المجلس القومي للطفولة والأمومة، لتحديد نظام تشغيل الأطفال، والظروف، والشروط، والأحوال التي يتم فيها التشغيل، والأعمال والمهن والصناعات التي يحظر تشغيلهم أو تدريجهم أو تدريبهم فيها وفقا لمراحل السن المختلفة، وحظر أيضًا في جميع الأحوال تشغيل الطفل فيما بين الساعة السابعة مساءً والسابعة صباحًا.
كما حدد القانون، إلزام صاحب العمل الذي يقوم بتشغيل طفل بمراعاة عدد من الأمور وتشمل: "تعليق نسخة تحتوى على الأحكام التي يتضمنها هذا الفصل في مكان ظاهر بمحل العمل، وتحرير كشف موضح به ساعات العمل، وفترات الراحة معتمدًا من الجهـــة الإدارية المختصة، وإبلاغ الجهة الإدارية المختصة بأسماء الأطفال العاملين لديه، والأعمال المكلفين بها، وأسماء الأشخاص المنوط بهم مراقبة أعمالهم".
ويتفق معه المستشار "إبراهيم حماد" المحامي بالنقض والدستورية العليا قائلا :" يجب تغليظ العقوبة لولي الأمر ومقاول الأنفار المسئولين عن تعريض حياة الأطفال للخطر كما يجب عمل حملات تفتيش من جانب القوى العاملة للمزارع، مقاول الأنفار موجود في جميع المحافظات وفي الريف المصري، حيث يتم استغلال الأطفال في جمع المحاصيل ورش المبيدات لصغر حجمهم، والتعامل مع النباتات" مطالبًا بتفعيل القوانين من أجل حماية الأطفال ومحاسبة أصحاب الأعمال الذين يستخدمون الأطفال في الأعمال الخطرة، فضلًا عن ضرورة القضاء على السمسار أو الكمسيون، بتطبيق المخالفات من خلال وحدات المرور على السيارات الناقلة للأطفال أقل من السن القانوني والتي تصل عقوبتها الحبس لمدة عامين، لأنه يتاجر بالأطفال ويعرض حياتهم للخطر.