هو علامة القانون المدني الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الذي ما إن يُذكر حتى يُذكر معه القانون المدني المصري، وغيره من القوانين المدنية العربية التي وضعها (رحمه الله).
شهرته الواسعة في مجال القانون غطت على كل الجوانب الأخرى في شخصيته وعطائه الفكري، فحين يُذكر اسم عبد الرزاق السنهوري( 1895 ـ 1971م)، يُذكر القانون المدني المصري والعراقي والسوري والليبي والقانون التجاري الكويتي، وقليلون من يعرفون السنهوري الفقيه والمفكر الإسلامي.
وُلد في الإسكندرية في الثاني عشر من أغسطس 1895م لأسرة متوسطة الحال، وكان أبوه موظفاً صغيراً بصحة البلدية بالإسكندرية، لم يلبث أن توفي بعد ولادته صغيره عبد الرزاق بخمس سنوات، لتتكفل الأم برعاية الأسرة وتربية الأبناء.
وفي الكُتاب بدأ السنهوري الصغير مسيرته التعليمية، حيث تلقى مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ بعضاً من القرآن الكريم، ثم انتقل للمرحلة الابتدائية ملتحقاً بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بوسط الإسكندرية، وكانت مميزة في مناهجها الدراسية، ومنها انتقل إلى مدرسة محرم بك الأميرية الثانوية، التي تخرج فيها سنة 1913م بتفوق، مُحرزاً الترتيب الثاني على جميع طلاب القطر المصري.
وفي السنة نفسها انتقل السنهوري للقاهرة، لإكمال تعليمه الجامعي في مدرسة الحقوق، والتحق بقسم الانتساب، الذي تسمح طبيعة الدراسة به للطلبة أن يعملوا بجانب الدراسة، وكان السنهوري رقيق الحال بحاجة لتوفير نفقات دراسته وإقامته بالقاهرة، فالتحق في الوقت نفسه بوظيفة مراقب حسابات في وزارة المالية، وقسّم يومه بين العمل نهاراً، ومذاكرة دروسه ليلاً. وبعد أربع سنوات من الكفاح والدأب، وتحديداً في سنة 1917م، حصل السنهوري الشاب على شهادة الليسانس في الحقوق، مؤكداً على تفوقه الدراسي، بأن كان ترتيبه الأول على قسم الانتساب، والثاني على الدفعة كلها.
وكان طبيعياً أن يفتح له تفوقه باب السلك القضائي، فعُين السنهوري عقب التخرج معاوناً للنيابة العامة في المنصورة، في فترة كانت تحمل نذر مرحلة جديدة في تاريخ مصر: فبعد أشهر قليلة نشبت ثورة سنة 1919م، ولما كان السنهوري ممتلئاً بالحماسة الوطنية، وشديد الإعجاب في الوقت نفسه بزعيم الثورة ورمزها(سعد زغلول)، فإنه لم يتردد ـ رغم حساسية منصبه ـ في المشاركة في نشاطات الثورة، فانضم إلى حركة "الوفد"، وتزعم إضراب الموظفين الذي بدأ في الثاني من إبريل من تلك السنة، وهو ما كان سبباً في عقابه بنقله إلى مديرية أسيوط في صعيد مصر.
في السنة التالية (1920م)، علم السنهوري أن مدرسة القضاء الشرعي بالقاهرة، تحتاج إلى مدرسين، فسعى للالتحاق بها، تاركاً عمله في النيابة، وقد تكلل مسعاه بالنجاح. وفي المدرسة أُتيح له أن يزامل في المدرسة كوكبة من الأسماء التي ستبرز في عالم الفقه والقضاء في مصر بعد سنوات، أمثال: الشيخ أحمد إبراهيم، وعبد الوهاب خلاف، وأحمد أمين، الذي توثقت عُرى الصداقة بينه وبين السنهوري. كما كان من حظ الشيخ العلامة محمد أبو زهرة، وقد كان طالباً بالمدرسة، أن يتتلمذ على السنهوري، ويتلقى منه دروس الفقه المقارن.
لم يطل المقام بالسنهوري في مدرسة القضاء الشرعي، ففي العام التالي(1921م) اختير ضمن طلاب بعثة دراسية قررت الحكومة المصرية توجيهها لفرنسا. وفي الثاني عشر من أغسطس تحديداً، كانت الباخرة تقله، وكانت مدينة ليون هي مقصده، حيث كان مقرراً أن يدرس القانون في جامعتها.
كان الاشتباك الأول للسنهوري مع الفقه الإسلامي في مدينة ليون الفرنسية عام 1925، حيث كان قد حصل للتو على شهادة الدكتوراه في القانون، برسالة علمية أبهرت أساتذته، وكان يمكنه العودة ليتولى مكاناً لائقاً بالجامعة المصرية، بيد أنه قرر أن يعد متطوعاً رسالة دكتوراه أخرى، في العلوم السياسية تلك المرة، تدور حول نظام الخلافة في الفقه الإسلامي. وهو الموضوع الذي أدهش أساتذته، لأن موضوع الخلافة كان يومها من أكثر الموضوعات إثارة للجدل في الأوساط السياسية الدولية، مع إلغاء الخلافة العثمانية قبل أشهر. وبالفعل قدم الشاب الطموح في السنة التالية (1926م) رسالته، التي حملت عنوان" الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية"، وحصل عنها على الدكتوراه الثانية.
في الرسالة تناول السنهوري مفهوم "الخلافة الإسلامية" في الفقه الإسلامي، وقدم تصوره الخاص لتطويرها على نحو عصري، يفصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية عملياً، ويصنع وحدة إسلامية تجمع دول العالم الإسلامي في منظمة واحدة، تشبه المنظمات الدولية.
وفي الرسالة أيضاً، وفي غيرها من كتاباته الإسلامية القليلة، ألح السنهوري على فكرة تطوير الشريعة الإسلامية، وذلك بفصل التشريعات القانونية عن العقيدة والعبادات والأخلاق، لنحصل على قواعد قانونية مجردة لا تفرق بين المسلم وغير المسلم، وبتطويرها نصل لـ"القانون الإسلامي" الموحد الذي يحكم البلاد الإسلامية، ويُطبق على جميع مواطنيها، بلا استثناء.
وقد قدم الرجل أكثر من مقترح تفصيلي وفكرة لتطوير الفقه الإسلامي، منها اقتراحه على كلية الحقوق بالجامعة المصرية إنشاء معهد مستقل خاص للشريعة الإسلامية والقانون المقارن، وذلك عام 1932م.
كذلك دعا الرجل لبلورة "القانون الدولي الإسلامي" الذي ينظم العلاقات بين الدول الإسلامية، ويقوم على مبادئ التعاون بينها في المجالات الاقتصادية والثقافية، ويضمن آليات لفض النزاعات بينها، وذلك حتى تتغير الظروف وتعود الوحدة السياسية والتشريعية لدول العالم الإسلامي.
وفي مجال الفقه المقارن بين القانون الوضعي والشريعة الإسلامية، كتب السنهوري موسوعته "مصادر الحق في الفقه الإسلامي مقارنة بالفقه الغربي"، التي صدرت أجزاؤها الستة بين عامي 1954م ـ1959م، وقدمت في 1500 صفحة مقارنة بين النظريات الفقهية الإسلامية، والنظريات القانونية الحديثة .
كذلك احتل تجديد الدين مكاناً مهماً في تصور السنهوري لمقومات نهضة الشرق المسلم، وكان يرى أن مدنية الشرق قامت في البداية على الدين، وأن الشرق إن أراد استعادة مدنيته، فلابد أن تتسم تلك المدنية بأمرين، أولهما أن تتصل بالتراث الشرقي وتصل الماضي بالمستقبل، والأمر الآخر أن تقوم تلك المدنية على الرُوحانية في مواجهة المادية الغالبة على المدنية الغربية. وهذا ما يجعل الدين أساساً للمدنية الشرقية المنشودة، كما كان أساساً للمدنية فيما مضى، وعلى هذا فلا مجال مُطلقاً للمطالبة بهجر الدين، كما فعل الغربيون، فإن كانت مدنيتهم المادية تسمح بذلك، فليس للشرق والشرقيين مدنية بغير الدين وروحه..
وفي الوقت نفسه ينبغي تنقية الديانات الشرقية الثلاثة من الخرافات والأوهام، وأن تتكامل فيما بينها في إرساء القيم الإنسانية النبيلة، مثل العدل، والحرية، والكرامة الإنسانية.
هذا هو السنهوري في وجهه الإسلامي، وإذا أردنا أن نلخص مشروعه الفكري في ثلاثة كلمات، فستكون: الوحدة.. والشريعة.. والنهضة.