قلب محروق منذ أربع سنوات مليئ بالحزن والألم، عينان شاردة تملؤها شرايين دموية حمراء اللون كل شريان فيها ينزف دموع يريد أن ينفجر صرخًا من الحسرة، هذا ما رأيته في وجه السيدة نيبال الأسيوطي، والدة الشهيد الرائد كريم فرحات، ضابط الأمن الوطني الذي استشهد في عملية الواحات عام 2017، على يد الخسة والندالة الجماعات الإرهابية.
تأجيل القدر
استقبلتني والدة الشهيد وبدأنا حديثنا عن الذكرى المؤلمة التي استرجعناها معها وهي أخر لحظات بينها وبين الشهيد كريم، روت لنا أن أخر مشهد بينهما كان يوم الثلاثاء الموافق 17 أكتوبر 2017، عندما عاد من عمله الساعة العاشرة مساءٍ على غير عادة لأن مواعيد عودته الدائمة المتعارف عليها التي كانت في تمام الساعة الثانية أو الثالثة صباحًا، الأمر الذي استغربوه جميعًا وسألوه عن سبب ذلك، فكان رده أنه جاء لتغيير ملابسه والعودة مرة أخرى لعمله لأنه مُكلف بمأمورية، وبالفعل بعد قليل استعد للعودة للعمل مرة أخرى وقامت بتوصيله للباب لوداعه، وبعد مايقرب من ساعة ونصف عاد مرة أخرى للمنزل الكائن في إحدى المناطق الراقية بحدائق الأهرام بمحافظة الجيزة، عادت حالة الإندهاش من جديد فقامت بسؤاله عن سبب رجوعه، أفاد بأن المأمورية تم إلغائها، وكأن القدر كان يريد أن يطيل في عمر البطل عدة ساعات لتستأنس به عائلته قبل الوداع الأخير، ويترك العائلة الصغيرة التي تتكون من أب وهو اللواء أسامة فرحات، والأم السيدة نيبال، والشهيد، وشقيقته نيفرت.
وفي حالة من التوتر ظهرت على وجه «الأم» أضافت أنه دخل غرفته للنوم وكان هذا أخر لقاء بينهما، وفي صباح الأربعاء 18 أكتوبر2017، استيقظ قبل موعده المعتاد وتوضاء وأدى صلاته وارتدى ملابسه وأستعد للذهاب لعمله كما روى لها والده الذي شاهده قبل نزوله، واستغرب والده سبب خروجه قبل موعده وفي يده حقيبة صغيرة بها ملابس وهذا الأمر الطبيعي له بسبب قضاءه أوقات كثيرة في القطاع فكان دائمًا معه هذه الحقيبة بها بعض الملابس، فسأله والده: «ليه نازل بدري يا كريم» ليرد: «أيوة يابابا عندي شغل» فقام الأب بتوصيله للباب وطلب منه أن يأخذ باله من نفسه، وكان الرد صدمة، وقبل أن تنطق به الأم بدأت استشعر حشرجة في صوتها تصاحبها غزارة في تساقط الدموع وقالت أنه وقف أمام والده صامت لحظات ثم قال له: «خليها على الله يابابا، هو يعني هيحصل ايه هستشهد ياريت»، وكانت هذه أخر كلماته في المنزل وذهب لعمله.
فلذة كبدي
وتابعت: «التواصل بيننا كان عبارة عن اتصالات هاتفية فقط، وفي ظهر الخميس تلقى والده اتصال منه يخبره إنه مجهد من مواصلة السهر على مدار يومين في عمله وإنه سوف ينام قليلًا ويقوم بعمل الهاتف صامت وأردت أن أخبركم حتى لا تقلقوا إذا اتصلتوا ولم أجيب، وكانت هذه المكالمة الأخيرة التي سمع فيها والده أخر كلمات فلذة كبده.
وفي ظهر الجمعة يوم الحادث المشؤم ذكرت السيدة نيبال، إنهم شاهدوا أخبار متداولة على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» عن عملية الواحات، ولكنهم لم يأتي في مخيلتهم أن نجلهم أحد المشاركين فيها، ولكن لأن منطقة الواحات تابعة لمنطقة عمله فقمنا بالاتصال به للإطمئنان على الوضع فقط وليس لعلمنا أنه معهم، ولكن هاتفه غير متاح، الأمر الذي أثار القلق بداخلنا جميعًا وبعد عشرات الإتصالات اتيح الهاتف وبعد فتح الخط لم يسمع والد الشهيد صوت نجله ولكنه سمع شخص يقول: «إلحقونا احنا بنموت ابعتولنا نجدة وفصل الخط»، وبذلك تأكدنا أنه في المأمورية، على الفور والده قام بالإتصال بمدير الشهيد، للإطمئنان، ولكن لم يتلقى رد مريح.
تعداد الشهداء
وأكملت حديثها بأنهم عاشوا في حالة من القلق والتوتر حال متابعة الأخبار على الإنترنت ومن خلال التلفزيون أيضا، حتى تلقوا خبر أن العملية انتهت وسوف يتم نقل الشهداء والمصابين لمستشفى الشرطة بالعجوزة، على الفور تحركنا للمستشفى وظللنا بها حتى الثانية صباح السبت ولم يأتي أحد ولم نعلم شئ عن إبننا، ثم تركنا المستشفى وذهبنا لأحد أقاربنا جوار المستشفى بعد إخبارنا أن المصابين سيأتون في السادسة صباحًا، لحظة صمت وشرود وكأنها استرجعت اللحظة في الوقت الحالي، وقالت أم الشهيد: «أنا متخيلتش لحظة إنه مات كل تفكيري إنه ممكن يكون مصاب فقط مش عاوزة عقلي يفكر في إنه من تعداد الشهداء».
وفي تمام السادسة صباحا، ذهب اللواء أسامة فرحات، والد الشهيد صحبة عمه للمستشفى مرة أخرى لمشاهدة المصابين وبعد فحص الجميع فلم يجدوا الرائد كريم من ضمنهم وتلقى خبر استشهاده من أحد زملائه في القطاع وأنه مع جثث الشهداء بمستشفى الشرطة بمدينة نصر، وما على الأب المصدوم من بشاعة الخبر إلا أنه أخبر زوجته التي رفض عقلها تمامًا الخبر، الذي جعلها تجري بجنون على المستشفى لرؤيته.
أصبع الشهادة
وفي حالة وصولها للمستشفى طالبت رؤيته، وبالفعل دخلت له المشرحة بعد عملية الغسل والتكفين، ولم يتبقى سوى وجه ملائكي تكسوه ابتسامته المعهودة، نائم لا تبدو عليه أي ملامح شخص فقد الحياة، أصبع الشهادة مرفوع والذي حاول المغسل بالمياه الساخنة ضبطه للوضع الطبيعي لليد ولكنه ظل مرفوع ولم يتمكن من ضبطه، فقامت بتقبيله، وأوضحت الأم: «لو كنت في حالتي الطبيعية لا استطيع الحياة بعده ولكن يشاء القدر بإصابتي بتعب في الأعصاب قبل وفاته بعام كنت أتلقى أدوية تجعلني أغلب الوقت في حالة من الهدوء أو النوم وكأنها سكينة من الله حتى أتحمل فراق فلذة كبدي وسندي ومصدر قوتي الذي كنت أنا ووالده نقول إن كريم اللي هيشلنا لما يدور بينا الزمن ونبقى لا حول لنا وقوة، لم أتخيل إنني أقوم بدفن ابني ويرحل ويتركنى».
واستطردت: «كان سري وراحتى، كان دائمًا في حالة غضبي وتفكيري فأي شيء يستطيع بإبتسامته الجميلة وعقله الكبير وحنيته الدافئة يوجد حل للمشكلة خارج كل توقعتنا، كنا بنعتمد عليه في كل شيء كان راجل في ضهري من صغره وليس بعد التحاقه بالعمل في الشرطة كان راجل من وهو طفل ويعتمد عليه كان بار بينا ويصل الرحم مكنش شغله يمنعة إنه يكون معانا في كل حاجة حتى لو بعد رجوعه من عمله الا المفروض راجع تعبان يعوضه بالنوم بالعكس كان يرجع لازم يجلس معنا ويعرف كل تفاصيل حياتنا "كريم كان حد جميل أوي مش معنا بس لا مع كل الناس عمره ما تعامل إنه ضابط شرطة».
فاعل خير
«الله يرحمه».. كلمة ترددت كثيرًا وكثيرًا على لسان والدة الشهيد، وتوقفنا لحظات لتستعيد الأم المتألمة هدوئها وتوقف دموعها التي كانت تتساقط دمعة تلو الأخرى وقالت: «أنا مش قادرة أصدق لحد الآن إن كريم استشهد بقعد كل يوم أشوف صوره كلها مليئة بإبتسامته المميزة بوجهه البشوش، الذي اكتشفت عنها الكثير بعد وفاته فقد سمعت عنه حاجات أنا كوالدته لست على علم بها مثل علاقته ببعض الجمعيات الخيرية التي كان مخصص لها جزء من راتبه وفي الأعياد بعد خدمة العيد لم يعد للمنزل مباشرة ولكنه يذهب مع الجمعية الخيرية لتوزيع الهدايا على المحتاجين في الأماكن الفقيرة وأنا في اعتقادي أنه في عمله، وهذا ما علمته من رؤساء تلك الجمعيات، وليس في حياته فقط محب للخير بل بعد وفاته أيضًا، فقد ذكرت الأم أنهم جميعا منذ وفاة البطل أغلقت غرفته بكل محتوايتها لمدة عامين كاملين لم يستطيعوا دخولها حتى أخبرهم أحد أقاربهم أنه رأى الشهيد في منامه يطلب منه أن يخبر والدته بأن تفتح غرفته وتتصدق بما فيها.
خرجنا من استرجاع الذكريات المؤلمة وبدأنا نتحدث عن «كريم» الابن وليس ضابط الشرطة، التي ذكرت أنه كان لديه العديد من الأصدقاء من زملاء الدراسة وزملاء العمل، وحتى لا يخسر أحد من زملائه بسبب إرتباطه بأخرين فقام بجمع كل أصدقائهم سواء المتواجدين معه في العمل أو خارج نطاقه وجعل الجميع أصدقاء لبعضهم البعض حتى يكونوا في خروجاتهم وتجمعهم سويا.
وبدون شعور تعود الأم للحكايات المؤلمة عن ابنها، التي تذكرت بعض الموافق بينهم التي تذكرتها بعض وفاته، ووصفتها إنها كانت رسائل منه ولكنها لم تستوعبها في وقتها، ومن تلك المواقف أنه عندنا أصيبت بمرض قبل استشهاده بعام كان دائمًا ينصحها بأن تقوى وتتناسى التعب وعدم الاستسلام له، وكأنه يقويها حتى تتحمل فراقه عندما يتركها وهو كان سندها في الحياة.
حكاية 2010
وبدأت تستعيد ذكريات دخوله كلية الشرطة فقالت: «كريم اتولد علشان يكون ضابط شرطة، كان حلمه رغم أننا حاولنا معه أن يقدم في كلية آخرى، إلا أنه رفض بشدة وصمم على الالتحاق بأكاديمية الشرطة المصرية بسبب حبه الشديد للبلد الذي كان دائمًا يدخله في حالة غضب من زملائه إذا حدث بينهم حوار واستشعر أن أحد ضد الدولة كان مستميت في دفاعه عنها، وبالفعل التحق بها عام 2006، وكان دائمًا في حالة انتظار رهيب للحظة تخرجه وكان دائم سؤال زملاء الأكاديمية هو «عشرين عشرة» أمتى هيجي بقا ، هو المقصود منه أمتى عام 2010 الذي يشهد تخرجه حتى يلتحق بالعمل الشرطي لتبدأ رحلة بطولاته في الدفاع عن البلد، ولكن نطقه لها وكأن شخص انكسف عنه جزء من الغيب أنه يرى أو يعلم يوم استشهاده ويذكره دائما ويذكر نفسه به وهو يوم 20/10/2017 الذي قابل فيه الشهيد البطل كريم فرحات، وجه الله الكريم، الذي من حبه للشهادة رفض الإرتباط حتى لا يترك وراءه زوجة وأبناء يتجرعون مرارة فراقه مثل ما تشعر به هذه الأم التي يتقطع قلبها حسرة على فلذة كبدها الذي كان يحلم أن يرى مصر ترتقي عقول أبنائها بحبها والنهوض بها للأمام والبعد عن كل ما يدمرها ويستبيح دماء أبنائها ويخربونها ويسعون لتدميرها.
وأنهت السيدة نيبال الأسيوطي، حديثها لـ«بلدنا اليوم» بإنها مطمئنة على أغلى ما في حياتها، مؤكدة أنه في مكان يحبه وكان يسعى للوصول له، ولكن فراقه صعب وموجع وكسرة كبيرة لها ولوالده وشقيقته، فهو بمثابة العمود الفقري الذي كانوا يستندوا عليه، وكانت آخر كلماتها بدموع حارة: «وحشتني اوي يا كريم مفتقداك أوي ربنا يجمعني بيك».
حامل الأسرار
والتقطت أطراف الحديث نيفرت، شقيقة الشهيد التي تصغره بـ4 سنوات التي ذكرت علاقتها بشقيقها إنهم كانوا قريبين لبعض لدرجة أنه دائمًا كان يذكر لزملائه وأقاربهم إنها ابنته وليست شقيقته فقط، وإنه كان دائمًا حامل أسرارها وصديقها المقرب وليس شقيق فقط، كان حنون عليها وصاحب عقلية متفتحة.
وبدأت تسرتجع أخر مواقف بينهما، فذكرت شقيقة الشهيد، أنه قبل استشهاده بعده أيام عاد من عمله حامل هدية لها، استغربت الأمر لأن لا يوجد سبب يستدعى ذلك ولا لديها مناسبة، وعندما سألته كان رده «علشان تفتكريني»، وبدأ يتحدث معها كثير وفجأة لحظت دموع في عيناه بعد نظرة طويلة لها، وكأنها نظرة الوداع التي يشبع عيناه وقلبه برؤية بنت قلبه شقيقته الصغرى، الأمر الذي كان صادم لها لأنها أول مرة في الحياة تشاهد دموعه التي أصابتها بحالة من عدم التركيز لدرجة إنها لم تستطيع سؤاله عن سبب دموعه، ولكنها استشعرت إحساس فراقه ولكن لم تصدقه.
دموع الفراق
وبدأت دموعها تتساقط وتتحدث عن أخر أيامه قبل الواقعة عندما عاد من العمل بدري ودخل لغرفته لأداء الصلاة وبعد الانتهاء منها دخلت لتسلم عليه وجدته يبكي وكانت المره الثانية على التوالي ترى دموع شقيقها التي جعلتها للمرة الثانية يتجمد لسانها عن سؤاله ما السبب، وأقنعت نفسها أنه كان في حالة خشوع بين يد الله وهذا ما سبب له ذلك، وبعد ذلك خرج لشغله وفي هذا اليوم أصابتها حالة قلق رهيب وبدأت تدعو الله أن يعد لها شقيقها سالمًا، وبالفعل استجاب الدعاء وبعد ما يقرب من ساعتين عاد للمنزل مرة أخرى ، الأمر الذي جعلها تشكر الله أن عائلتها جميعا داخل المنزل لم ينقص أحد، وكان هذا الإكتمال الأخير للأسرة الصغيرة، وخرج مصدر قوتها وسندها في الحياة ولم يعد.
واستطردت قائلة: «رغم وجع فراقه إلا إنني مطمئنة عليه لأنه في مكان جميل وبحلم بيه كتير بيطمني عليه، شوفته في حلمي مع الرسول مرة، ومرة أخرى في الروضة الشريفة، وهذه دلالاة على إنه في المكان المناسب له وأكيد مبسوط فيه».
واختتمت حديثها بإنها حريصة على تنفيذ وصياه لها من قراءة القرأن الكريم، والصلاة والاجتهاد في عملها.
هنا ينتهي حديثنا عن أحد الأبطال الذي أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، رحل عن عالمنا الرائد كريم فرحات، جسديًا فقط وبقيت روحه مخلدة بسيرته العطرة التي سجلت اسمه في التاريخ ببطولاته في محاربة أعداء الوطن تجار الدين محللي الحرام مستبيحي الدماء أصحاب الإرهاب الأسود جماعة الإخوان الإرهابية.