يجب تحفيز القطاع الخاص لتمويل الأبحاث العلمية.. وتفعيل آلية لحفظ الملكية الفكرية
«التعليم لأجل التوظيف الشخصى» صيحة العصر.. ويجب إكساب الطلاب المهارات للمنافسة بالسوق
كشف الدكتور أشرف الشيحى وزير التعليم العالى والبحث العلمى السابق، عن المعوقات التى تعترض طريق البحث العلمى فى مصر، موضحا أنها تعتمد بشكل كبير على الدولة بنسبة تصل إلى 92% على عكس القطاع الخاص بنسبة 8%، وذلك على عكس العالم الخارجى الذى يعتمد بشكل كبير على القطاع الخاص فى تمويل البحث العلمى، والجانب الأقل تتحمله الدولة.
وأضاف الشيحى أن مصر تحتاج إلى فرص تعليم عال كثيرة، وتحتاج إلى مليون وربع المليون فرصة تعليم جديدة حتى عام 2030، وفقا لخطة التنمية المستدامة، التى شارك فيها عندما كان متوليا منصب الوزير.
وإلى نص الحوار..
< ما المعوقات أمام تطوير البحث العلمى فى مصر؟
فى أمريكا 92% من تمويل البحث العلمى قطاع خاص، فأصحاب الصناعات والمشروعات يقومون بتطوير أدائهم من خلال الأبحاث العلمية، لذلك هم يدعمون الأبحاث العلمية فى الجامعات والمؤسسات العلمية بنسبة تتجاوز 92% مما ينفق على البحث العلمى، و8% فقط أو أقل هى النسبة التى يتم تمويلهم من الدولة.
ولدينا العكس تماما فى مصر، فهناك 92% تقريبا على الأقل "تمويل دولة"، ومساهمة القطاع الخاص بكل أشكاله لا تتجاوز 8%، فهل سنظل ننادى الدولة نريد مخصصات أكثر للتعليم حتى تكون مثل هذه الدولة أو غيرها؟
لكن كل دولة من هذه الدول لا تصرف من موازناتها هذه الأرقام، إذا يجب علينا تنمية وتحفيز القطاع الخاص على المشاركة فى تمويل البحث العلمى، لأنه أول المستفيدين، وذلك من خلال تطوير منتجه وتطوير منظومة العمل فيه، وهذا هو الجزء الخاص بالماليات، والجزء الآخر هو أننا نرى أن هناك حاجة لتغيير الثقافة الخاصة بالباحثين فى مصر، الآن، فهم ينشرون الأبحاث فقط فى أغلب الأحيان لأجل الترقى لوظيفة ما، وبالتالى يصبح الهدف هو البحث، وليس الهدف تطبيق البحث وإخراج منتج يحقق عائدا اقتصاديا، فبمجرد انتهاء البحث؛ هو يحقق المطلوب، لكن الحقيقة، هذه نقطة البداية، وليست النهاية.
ويجب أن يلى هذه الخطوة حفظ للملكية الفكرية من براءات اختراعات، ثم إقامة شركات ناشئة لتدر عائدا اقتصاديا ناتجا عن البحث، فجميع الدول التى وقفت وقفة اقتصادية قوية فى العالم، تمكنت من ذلك من خلال البحث العلمى، فإذا لم نقم ببحث علمى وربطناه بالصناعة ونمينا المخرجات الخاصة به، فسيكون مردوده الاقتصادى أقل.
< هل هناك صعوبات تواجه البحث العلمى فى الدول العربية خصوصا بالعلوم الاجتماعية؟
بالنسبة للعلوم الاجتماعية، فنحن نواجه صعوبات من نوع آخر، وهى أن النشر العلمى لدينا يتم باللغة العربية، وعند تصنيف الجامعات فى العالم ورؤية حصيلة إنتاجها حتى يستطيعوا تقييمها إن كانت جيدة أم سيئة، فلا يرون الأبحاث المنشورة باللغة العربية، وهذه مشكلة، فطبيعة الدراسة لدينا فى الكليات النظرية والاجتماعية باللغة العربية.
أما بالنسبة للأمور الأيديولوجية فمصر لن تُخضع هويتها لأحد، فهى لديها هوية واضحة ولها تاريخ وحضارة، ومجتمع منشأه بحكم التاريخ مجتمع وسطى متدين، أى شطط أو خروج عن هذا الأمر سواء فى مصر أو أحد الأبحاث من باحثين فى مصر أو جامعى أفكار أخرى، لا تجد قبولا ليس فقط فى أى دولة عربية بل فى مصر، فهناك أشياء كثيرة يتم ترويجها تحت حرية الفكر والإبداع وحرية الإنسان وهى لا علاقة لها بتلك المسميات، ونحن لدينا موروث ثقافى عظيم، ولا نريد أن يشكل الغرب بالنسبة لنا فزاعة أو إغراء لمنفعة له.
< ما هى الحلول للمشاكل المتعلقة بالبحث العلمى؟
الأبحاث العلمية لدينا لا تجد سبيلا لحفظ الملكية الفكرية ثم تطبيقها، وهذا كان يحتاج إلى بعض التعديلات التشريعية التى تسمح بتسهيل هذه الأمور، وهذا ما قمت به، واستكمله وما زال الدكتور خالد عبد الغفار وزير التعليم العالى، فنحن نستكمل هذه التعديلات القانونية والتشريعية، حتى نتيح الاستفادة منها فى أبحاثنا.
< هل لديك أفكار لم يسعفك الوقت لتنفيذها عندما كنت وزيرا للتعليم العالى؟
نحن نتحدث عن التعليم، والتعليم يستغرق وقتا وليس قرارا يتم اتخاذه وتطبيقه فى اليوم الثانى، فالقرار له تأثيره، والميديا لها تأثيرها فى تغيير ثقافة الناس، وأى شىء يستغرق سنوات حتى يتم تطبيقه، وجنى الثمار قد يأتى بعد خمس سنوات دراسة على سبيل المثال.
وأنا أدَّعى أننى وضعت الرؤى التى أتمنى أن تنفذ، ومقتنع أنها ضرورية، وتطبيق تلك الرؤى والتى أصبحت جزءا من خطة التنمية المستدامة لمصر2030، بما يعنى أنها أصبحت من رؤية الدولة، فتطبيقها يحتاج سنوات، وقمت بتطبيق شىء، والدكتور خالد يطبق شيئا آخر، ويأتى من خلفنا الثالث والرابع والخامس، فليس بالضرورى أن أصل لها، ولكن سيصل لها آخر، فهى هدفنا وهدف مصر.
< قرار عاجل ترى أهمية اتخاذه بشأن التعليم العالى فى مصر؟
لا بد من تغيير شكل التعليم من تعليم تلقينى، وطريقة الامتحانات من حفظ وذاكرة، وطريقة التعامل مع المعلومة، فليس هناك ما يسمى بكتاب دراسى، فلا بد أن نكون منفتحين على كل قواعد البيانات ونوفر مراجع، فأنا أحب أن يكون الطالب متعلما لتلك الأمور، حتى يكون قادرا للبحث عن المعلومة وليس تلقيها، وقادرا على مناقشتها وليس حفظها وتلقينها، فذلك الأسلوب الفكرى، بالإضافة إلى فكرة العمل الحر، وتشجيع الطالب على الابتكار والإبداع، منظومة لا بد من العمل عليها خلال السنوات القادمة.
< هل ترى أن تطبيق هذه الآليات سهل؟
ولم لا، فأنا لا أرى عوائق، قد تكون العوائق موجودة فى بعض الكليات كبيرة العدد، أو بعض الجامعات ذات الكثافة الضخمة، لكن ليست كل الجامعات بها مشاكل، وحتى وإن استغرقت تلك الجامعات وقتا أطول، يجب علينا البدء بالتحرك إن شاء الله فى الفترة القادمة.
< كيف تجرى الاستفادة من البحث العلمى فى خدمة المجتمع؟
عندما كنت فى الوزارة، اتخذت إجراءً يطلق عليه التحالفات، فقد أجريت 8 تحالفات، وكل تحالف أعطيته تكلفة 10 ملايين جنيه، واخترت التحالفات الثمانية، من خلال مسابقة تقدم لها 45 تحالفا، فما حكاية تلك التحالفات، "أنا قولت ما ينفعش أنا اشتغل وأنت متعرفنيش، لأنه أنا وأنت نعمل فى نفس المجال، فلا بد أن نساعد بعضنا البعض"، فلا يمكن لكل جامعة مصرية تغلق على نفسها وليس لها شأن بالجامعات الأخرى، فقلت إننى سأبحث فى شىء يخص المنتج المحلى أو الصناعة المحلية أو الطاقة الشمسية، وطلبت أن يأتينى فريق عمل ليتقدم ويخبرنى: "هذا هو الهدف، وكيف سيحققه فى فترة لا تتجاوز عامين"، بشرط أن يتكون فريق العمل من 5 جهات وليس جهة واحدة.
وأن تكون هناك جامعات ومراكز أبحاث، وهناك ضلعان آخران يتمثلان فى المجتمع المدنى وقطاع الصناعة المستفيد من البحث، فتلك الأضلاع الأربعة أشركتهم فى منظومة يعملون عليها، وبعد عامين يخرجون علينا بمنتج، جزء منه المجتمع المدنى الداعم، وجزء منه لرجال الصناعة المتلقين للنتيجة حتى يطبقوه، وهنا يشعر المجتمع بالبحث العلمى، ولا يكتفى بمراقبته عن بعد، ويشعر بمردوده ويُطبق.
وفى نفس الوقت كباحثين نتكامل مع بعضنا البعض، وندرك أننا لن نستطيع الحصول على الأموال، إلا بوضع أيدينا فى أيدى بعض، بدلا من الوقوف محاربين لبعضنا البعض، وأعتقد أن هذا جزء من الفكر الذى بدأناه وحقق نجاحا، وعلينا التوسع به أكثر وأكثر، لأن العمل البحثى عمل جماعى، وزويل عندما حصل على جائزته، أحضر الناس الذين كانوا يعملون معه، وأشار إليهم بأنهم هم الذين صنعوا الجائزة، والدكتور مصطفى السيد عندما كنت جالسا معه، أخبرنى بأنه رجل علوم، ومشكلة السرطان مشكلة طبية من الأساس، ولم أكن لأعلم السرطان، لولا فريق العمل الذى أخبرنى بذلك، فنحن من هنا نريد أن تتعود الناس على العمل الجماعى، من خلال ربط تمويل البحث العلمى بجامعية الأداء.
< كيف يخدم التعليم العالى قطاع التوظيف فى مصر؟
أولا مصر تحتاج إلى فرص تعليم عال كثيرة، وفقا لخطة التنمية المستدامة 2030، وأنا تشرفت بالمشاركة فيها وتم اعتمادها وقت وجودى فى الوزارة، وهى لها معدلات ونسب، ونحتاج إلى زيادة، ليس فقط أعداد بينما نوعيات، فالصيحة الجديدة التى انتشرت فى العالم الآن، ليست التعليم ليواكب احتياجات سوق العمل، بل التعليم لأجل التوظيف الشخصى، بمعنى أن الطالب مسؤول عن توفير فرصة العمل لنفسه، فليس يكفى تخريج الطالب متعلما تعليما جيدا ويجد فرصة العمل متاحة أمامه، بل يجب تعليمه جيدا وإكسابه المهارات التى تجعله قادرا على خلق فرصة العمل لنفسه، وهذا ما يسمى بالشركات الناشئة، فالعالم خلال ما بين 10 و20 سنة قادمة، تتراجع فيه الوظائف التقليدية، والوظائف الجديدة وفرص العمل الجديدة جميعها شركات ناشئة، فكيف نُكسب الطلاب هذه المهارات؟ وكيف نُجرى دراسات جدوى بشكل ابتكارى إبداعى؟ وكيف نتبنى فكرة ولا نسفهها ونصل بها بعد مراجعتها إلى مشروع يبدأ به حياة، لذلك يجب أن نجعل الطالب يشعر بأن التعليم ليس عبئا ثقيلا، بل أن يكون مبدعا، ومن الممكن أن يتعلم ويكتسب مهاراته ويكون سعيدا فى نفس الوقت.
< هل يستطيع الطالب الحصول على وظيفة فى ظل الظروف الحالية حتى لو تعلم وفقا لتلك الضوابط؟
هذا هو المستقبل فى العالم كله، وليس خيارا فيه قدر من الرفاهية بالأخذ به من عدمه، فإذا لم نتخذه سنتخلف ونواجه مشكلة أكبر، والرئيس عندما واجه مشكلة الدعم بقرارات قوية، برفع تدريجى للدعم، كانت جراحة صعبة ومؤلمة، والمجتمع يصرخ من ارتفاع الأسعار، ولكن يمكننا أن نرى ما هو البديل الذى كان سيتخذه الرئيس لو لم يتخذ هذا القرار، فكلنا كمواطنين شعرنا بصعوبات اقتصادية بعد قرارات تعويم الجنيه، رغم رفع أسعار الخدمات الأساسية من طاقة وكهرباء وغاز وغيرها.
لكن البديل هو أننا لن نجدها، ويتم إعلاننا أننا كدولة لن تستطيع سداد ديونها وإعلان إفلاسها، وفى ذلك الوقت سعر الدولار سيكون بألف جنيه، فنحن يجب أن ندرك أن هناك قرارات صعبة لا بد من اتخاذها وهكذا فى موضوع الشركات، فإذا توقفنا وقلنا إننا سنفكر فى الفشل وعدم الفشل، فما البديل؟
والآن لا فرص للوظائف الحكومية، والقطاع الخاص فى عصر العولمة يتنافس فيه المتنافسون على مستوى أكبر مما كان عليه، فمن الممكن أن نجد الآن شركات أجنبية تقوم بأعمال مقاولات وبنية أساسية، وشركات أخرى مصرية لا تعمل، فلم تصبح المنافسة بين 3 أو 4 شركات فى مصر، بل من الممكن أن يحصل على تلك الفرصة شركة أخرى قادمة من الخارج كالهند على سبيل، ولكنها قدمت خدمات جيدة بأسعار جيدة، فالمنافسة العالمية تجبرنا أن نكون جزءا منها.
والعولمة حينما ذكرت للمرة الأولى قبل سنوات عديدة تخيلناها شيئا بعيدا ولن نراها، والآن نحن نعيشها، حتى أنه من الممكن ينافس فى وظيفة أحدهم، آخر أفضل منه قادم من دولة ولا يعلم أين هى مصر، لكنه تقدم على تلك الوظيفة وحصل عليها، فلا بد أن ندرك أننا طالما أصبحنا جزءا من المجتمع الدولى، وأصبحت فيه كسر للحدود بين الدول على المستوى الفكرى، فلا بد أن نحلم نفس الحلم، فانتظارنا للوظيفة التقليدية فى جهاز حكومى، هو أمر غير موجود فى العالم كله.
< هل اتخذت خطوات تدعم تلك الأفكار عندما كنت متوليا للوزارة؟
نعم قمت بذلك، وأجرينا مشروعات فى أكاديمية البحث العلمى؛ لدعم الأفكار والمبتكرين والشركات الناشئة، وعدد كبير من الشركات كنا نعطيها منحة بـ150 ألف جنيه لمشروع ناجح على مدى عام، ونتبناها علميا وفنيا حتى تقف على قدميها، وعديد من الشركات التى نشأت من الشباب بأفكار بسيطة تحولوا بها إلى أن أصبحوا الآن رجال أعمال وأصحاب شركات، وهذه هى الفلسفة الجديدة، فهناك ثلاثة خطوط يجب العمل عليها سويا متمثلة فى "تعليم متميز عالى الجودة" حتى نستطيع المنافسة مع أقراننا فى الدول الأخرى، و"تدريب ميدانى" حتى لا يكون هناك فارق بين التعليم الأكاديمى واحتياجات السوق الذى سيقوم بتدريبه إذا لم يكن فى كامل جاهزيته، والحديث عن ريادة الأعمال بـ"تنمية المهارات من لغة قانون ودراسات جدوى".
< كيف يستطيع الطالب إجراء البحث العلمى بشكل سليم؟
أنا أستاذ هندسة، وعندما أتحدث مع طلابى عند تدريسهم الهندسة الإنشائية، كنت أقول لهم إنكم قادمون اليوم صباحا بشكل وستعودون بشكل آخر، فأنت تخرج صباحا وتسير دون أن تنظر يمينا أو يسارا، أو تنظر ولكن بطريقة خاطئة، وعندما تعود إلى بيتك ستنظر يمينا ويسارا ولكن ستنظر بطريقة صحيحة، وتنظر إلى المبانى وتتساءل فى نفسك عن الطريقة التى تم بها بناء هذ المبنى، أو لماذا ذلك الحائط زائد، وكيف أنه أصبح عاليا بدون وجود أعمدة كافية؟
"ابدأ تساءل ودقق وانتقد، ولا تترك عيناك تجريان، دون أن تدرك التفاصيل"، فبداية الفكر الانتقادى، هى أن تفكر وتحلل وتقتنع وتبدأ ببناء قناعات، فأحدهم يشرب عصيرا أحضروا له "شاليموه"، ووضعها وبدأ بإمالة الكوب، فسكب العصير على ملابسه، ولأنه يفكر بشكل مختلف تساءل عن كيفية حل هذه المشكلة، فأحضر الشاليموه، واخترع لها "السوستة" التى تعمل على "مدها وثنيها"، وفى السابق كانت الشاليموه قطعة واحدة، فعندما قام باختراع السوستة، تحول إلى مليونير فى يوم واحد، فكرة بسيطة ولكنها حلت مشكلة للمجتمع.
فنحن نريد للطالب أن يفكر، والتفكير ليس حكرا على تخصص، وعندما كنت رئيسا لجامعة الزقايق، اشترك طلاب فى مسابقة "فورمولا"، وحصلوا على جائزة أفضل ابتكار، وطلاب آخرون فى هندسة الزقازيق ونحن لسنا لدينا فيها قسم للسيارات، بل هم طلاب من قسمى الميكانيكا والكهرباء، أنشأوا فريقا، وعملوا تحت إشراف أعضاء هيئة التدريس وأخرجوا فكرة ابتكارية، حصلت على الجائزة الأولى على مستوى العالم، وكذلك طلاب عين شمس الذين حصلوا على جوائز خلال الأسبوعين الماضيين، فنحن لدينا شباب جيدون، ولكن "يجب أن نجعلهم يفكرون بحرية، ولا يجب تقييدهم أو وضعهم فى قمقم والإغلاق عليهم بالحيطان، وأقول للواحد منهم اتفضل اسرح، هيسرح فى ايه، ومافيش غير حيطان".