كانت "صفقة القرن" واحدة من أبرز المبادرات التي طرحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خلال ولايته الأولى، بهدف تسوية القضية الفلسطينية.
أُعلن ترامب عنها في يناير 2020، ووصفتها إدارته بأنها خطة سلام شاملة، لكنها قوبلت بانتقادات واسعة ورفض من الجانب الفلسطيني.
تضمنت الصفقة بنودًا تمنح إسرائيل سيادة شبه كاملة على القدس المحتلة، مع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في خطوة اعتُبرت اعترافًا فعليًا بها كعاصمة لإسرائيل.
هذا القرار التاريخي كان بداية لسلسلة من الإجراءات التي أثارت توترًا دوليًا واعتبرت انحيازًا واضحًا لإسرائيل.
ركزت الصفقة على قضايا رئيسة، من بينها الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وفرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات في الضفة الغربية، وحل القضية الفلسطينية من خلال وعود بتنمية اقتصادية دون منح السيادة الكاملة لدولة فلسطينية مستقلة.
بالمقابل، قُدمت وعود بمساعدات اقتصادية تصل إلى 50 مليار دولار للفلسطينيين وجيرانهم، لكن هذه العروض قوبلت بالرفض القاطع من الفلسطينيين الذين اعتبروها التفافًا على حقوقهم المشروعة.
مع فوز ترامب بولاية ثانية، يتوقع المحللون أن يعيد صياغة مبادرات جديدة لتعزيز الدعم الأمريكي لإسرائيل، ورغم دفن "صفقة القرن" بشكلها السابق بسبب التطورات الأخيرة، خاصة العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، فإن ترامب معروف بقدرته على إعادة طرح الأفكار بأساليب جديدة تتماشى مع منهج رجال الأعمال، حيث لا يمكن استبعاد احتمالية تقديم صفقات جديدة تحقق أهداف إسرائيل في المنطقة، لكن بأسلوب أقل حدة وأقرب إلى التسويات الاقتصادية والسياسية.
من المتوقع أن يعمل ترامب على تحقيق مصالح إسرائيل بطريقة تراعي التغيرات التي طرأت على المشهد الإقليمي والدولي، وخصوصًا الحرب الدائرة بين إسرائيل وغزة ولبنان.. فكيف ستكون ملامح صفقة ترامب الجديدة؟
صفقة تستهدف الضفة الغربية
قال مدير مركز يافا للبحوث والدراسات، الدكتور رفعت سيد أحمد، إنه يعتقد أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب سيأتي بصفقة قرن جديدة لمصادرة الضفة الغربية بشكل كامل لصالح إسرائيل، بعد مصادرة غزة بقوة السلاح.
وأكد، في تصريح خاص لـ"بلدنا اليوم"، أن الشائعات حول انحيازه للحق العربي مقابل وقف النار هي كلام عارٍ من الصحة، موضحًا أن ترامب سيذهب لصفقة قرن جديدة.
وعن ملامح هذه الصفقة، قال أحمد إنها ستكون إعطاء الضفة وغزة بصورة رسمية للكيان الصهيوني، وجعلها إسرائيلية بالكامل.
واستشهد أحمد بتصريحات ترامب السابقة التي قال فيها إن إسرائيل صغيرة حجمًا قياسًا بالدول العربية المحيطة بها، ولا بُد أن تكبر.
وأضاف أحمد أن ترامب قتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري قاسم سليماني، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس، وقدم صفقة القرن الأولى.
وأشار مدير مركز يافا إلى أن ترامب قياسًا على هذه الأفعال لا يتوقع منه أي خير، مطالبًا بضرورة دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية حتى تستطيع أن تفشل كل هذه المخططات، على أن يكون هناك دعمًا من الشعوب والجيوش العربية لها.
وشدد أحمد على ضرورة التجهز لصفقات أخرى يقوم بها ترامب، موضحًا أن خير ما يتجهز به العرب لذلك هو تقديم السلاح للمقاومة.
صفقة مستبعدة
صرّح المحلل السياسي الدكتور عمرو الهلالي بأن إعادة طرح "صفقة القرن" بصيغتها السابقة ليست على أجندة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في الولاية الجديدة.
واعتبر، في تصريح خاص لـ"بلدنا اليوم"، أن ما شهدته المنطقة من تطورات، خاصة التدمير الكامل لقطاع غزة والهجوم على لبنان، يجعل من المستبعد قبول مثل هذه الصفقة بالطريقة القديمة.
وأوضح الهلالي أن هناك عدة أسباب لهذا التصور، أولها أن ما قامت به إسرائيل من عمليات عسكرية خلال العام الماضي أجهض أي فرصة للتوافق حول صفقة شاملة للقضية الفلسطينية في المستقبل القريب.
وأضاف أن الدول الخليجية، التي كان يُشاع أنها قد تدعم الصفقة اقتصاديًا، تراجعت بسبب التداعيات الشعبية المحتملة، والتي قد تؤدي إلى غضب شعبي لا يمكن تجاهله.
وأشار الهلالي إلى أن ترامب، بصفته رجل أعمال، يدرك أنه لا يمكن تقديم مبادراته بالطريقة والأساليب نفسها مجددًا.
وأكد أن ترامب في ولايته الثانية لن يتبع الأهداف ذاتها التي كان يسعى لتحقيقها في 2017، لأن الدورة الثانية لأي رئيس أمريكي عادةً لا تحكمها رغبة في إرضاء الأطراف لإعادة انتخابه، بل يكون أكثر عقلانية، خاصة مع الإرث الصعب الذي تركته إسرائيل في علاقاتها بالمنطقة.
وأوضح الهلالي أن ترامب سيبحث عن تسوية بطريقة تتماشى مع منهج رجال الأعمال، لكنها لن تكون بالصورة الفجة التي ظهرت عليها "صفقة القرن" السابقة، والتي يرى أنها قد دُفنت ولن تعود مرة أخرى.
واستدل على ذلك بتعيينات ترامب لمبعوثين جدد للشرق الأوسط مثل ستيفن ويتكوف، المعروف بكونه من أباطرة العقارات، وهو ما يشير إلى توجه مختلف في التعامل مع القضايا.
واختتم الهلالي بأن ترامب سيسعى إلى رفع السقف والضغط على الفلسطينيين لقبول نسخة معدلة من الصفقة تكون أقل تطرفًا من سابقتها.
تحديدات تعرقل الصفقة
من جانبها، سلطت صحيفة "نيويورك تايمز" الضوء على التحديات التي سيواجهها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الشرق الأوسط خلال ولايته المقبلة، حيث تغيّرت التحالفات والأولويات الإقليمية بشكل كبير مقارنة بفترته الأولى.
أبرز هذه التغيرات تقارب السعودية مع إيران وتوتر العلاقة مع إسرائيل، مما يجعل فرص نجاح أي سياسات جديدة أكثر تعقيدًا.
أوضحت الصحيفة أن سياسة ترامب السابقة اعتمدت على تقويض الاقتصاد الإيراني وعزل إيران من خلال تعزيز علاقات إسرائيل مع خصومها العرب.
أحد أبرز إنجازاته كان توقيع اتفاقيات "إبراهيم"، التي قادت الإمارات، البحرين، المغرب، والسودان إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مقابل صفقات أسلحة ودعم أمريكي. ورغم ذلك، فشلت الجهود في جذب السعودية لتوقيع اتفاقية مشابهة، وهو هدف حاول الرئيس بايدن تحقيقه أيضًا دون جدوى.
ترث إدارة ترامب المقبلة مشهدًا مختلفًا، فهجمات حماس في أكتوبر 2023 والحرب على غزة أضافت تعقيدات كبيرة، وأدت إلى رفع سقف مطالب السعودية للتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل.
اختيار ترامب لمبعوثين مثل ستيف ويتكوف، المؤيد القوي لإسرائيل، ومايك هاكابي كسفير لإسرائيل، يشير إلى استمرار الدعم غير المشروط لتل أبيب، لكن خبراء مثل كريستيان أولريتشسن الباحث في الشرق الأوسط ب معهد جيمس بيكر الثالث للسياسة العامة في جامعة رايس بهيوستن يرى أن استئناف ترامب سياساته القديمة سيكون خطأً كبيرًا، في ظل تغيّر الأوضاع.
وهناك معضلة أخرى، وهي أن حكومة بنيامين نتنياهو الحالية هي الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، ما يضع قيودًا على أي تنازلات للفلسطينيين، فيعتمد نتنياهو على دعم المتطرفين لتجنب انتخابات قد تُضعف سلطته، مما يجعل تقديم تنازلات حقيقية أمرًا مستبعدًا.
ورغم محاولات ترامب السابقة ربط الدول العربية بإسرائيل كجزء من استراتيجيته ضد إيران، فإن الحسابات الجديدة قد تدفع هذه الدول إلى تبني سياسة أكثر حذرًا، فمن المرجح أن توازن دول الخليج بين تقاربها مع إيران وسعيها لتأمين معاهدات مع واشنطن، مع الأخذ في الحسبان تغير موازين القوى الأمريكية.
تختتم الصحيفة بالتأكيد على أن ترامب سيواجه واقعًا معقدًا، قد يتطلب حلولًا جديدة تتجاوز السياسات التقليدية التي اتبعها في ولايته الأولى.