أيام أنور وجدي الأخيرة.. الحياة رفضت صفقة فتى الشاشة ووضعته في تابوت

الجمعة 11 أكتوبر 2024 | 08:40 مساءً
أنور وجدي
أنور وجدي
كتب : محمد أحمد أبو زيد

المشهد الأول- "نهار داخلي" ..  المكان: عمارة الايموبيليا 

يضع أنور وجدي يده فوق جبينه يتحسس درجة حرارته التي ارتفعت، يعتدل في جلسته وهو يرقد فوق سريره في غرفة نومه داخل شقته الفاخرة في عمارة الايموبيليا، لا يجد أحد بجواره يخبره بأنه يكره المرض حتى ولو كان مجرد "انفلونزا" قد يراها البعض تافهة ولا تدخل ضمن قاموس الأمراض.  

كل من عرف "وجدي" عن قرب يدرك مدى حبه للحياة وبغضه للمرض، يقاومه بكل ما أوتي من قوة، يستغل كل لحظة في حياته لكي ينجز فيلما يراه على الشاشة، يحب الحركة ويتشائم عندما يجد أحد يرقد بلا حراك، كانت الوحدة تؤلم فتى الشاشة الأول أكثر من المرض، يلتفت على يساره في نظرة خاطفة على صورته التي تجمعه بطليقته ليلى مراد وقصة الحب التي قتلتها الغيرة الفنية وعقود الاحتكار، والفلوس التي كان يقول عنها بفلسفته "الفلوس هي الدنيا"، بعد أن ذاق مرارة الجوع والإفلاس في بداياته، وفرقت "الفلوس" بينه وبين زوجته وزملاؤه بصفته منتجا، حتى أن معجزته الطفلة فيروز اتهمته بالبخل وقالت أنه كان يأخذ منها ملابس الشخصية فور الانتهاء من التصوير.  

فلاش باك — أيام الشقاء والتعب

يميل "وجدي" برأسه للخلف ويرجع بذاكرته لسنوات عندما طرده والده من المنزل ليجد نفسه في شارع عماد الدين و"جيوبه" خاوية على عروشها لا يملك سوى مليم يشتري به رغيف حاف يأكله على دخان يخرج من محل "كبابجي" ثم ينتظر بالساعات قدوم يوسف وهبي أمام مسرحه على أمل أن يضمه إلي فرقة رمسيس، حتى وقف الحظ بجانبه وانضم للفرقة بوساطة من الريجسير قاسم وجدي وحتى يرد له الجميل أخذ منه اسمه الثاني وأطلق على نفسه "أنور وجدي" وكان عمله عبارة عن تسليم الأوردرات للفنانين، وحصل بعد فترة على أدوار صامتة في عروض الفرقة وترقى حتى بات كومبارس متكلم، ومنحته الدنيا فرصة وظهر لأول مرة في مسرحية "يوليوس قيصر" مطلع العشرينيات، وربما بكى في إحدى زوايا مسرح رمسيس وهو يمسك في قبضة يده بأول مرتب وهو 12 مليما.  

ظهر مع بداية فترة الثلاثينيات في الفيلم الصامت"جناية نصف الليل" ثم في أول فيلم ناطق "أولاد الذوات" وبعده في فيلم "الدفاع" مع يوسف وهبي، وفتحت له السينما ذراعيها وشارك في أواخر الثلاثينات في 5 أفلام دفعة واحدة أبرزها "بائعة التفاح والعزيمة" وفي الاربعينيات يحصره المخرجين في أدوار الشاب المستهتر ابن البشاوات في أفلام "ليلى بنت الريف، انتصار الشباب" وتتصدر صورته أفيش فيلم "كدب في كدب" بجوار ببا عز الدين في أولى بطولاته المطلقة، وكوَّن شركة "الأفلام المتحدة" التي كانت باكورة أعمالها فيلم "ليلى بنت الفقراء" مع ليلى مراد ومن تأليفه وإخراجه، وتجمعهما عدة أفلام رومانسية أبرزها ليلى بنت الأغنياء، عنبر، بنت الأكابر، حبيب الروح، غزل البنات".

ثروة بلا وريث

جمع أنور وجدي ثروته بالشقاء بدأها بـ12 مليماً في الشهر حتى وصل إلي 35 جنيهاً في الدقيقة، ولم ينتبه لسنوات عمره التي ضاعت في جمع الثروة إلا بعد فوات الآوان وبات يفكر في الوريث، بعد انفصاله عن ليلى مراد التي لم تنجب له الولد، وعاد بالذاكرة إلي حبه القديم ليلى فوزي التي أراد الزواج منها منذ سنوات طويلة ورفضه والدها، وبدأ قلبه يدق مرة آخرى عندما كان يقابلها صدفة في الاستديوهات وصارحها بحقيقة مشاعره كما صارح أصدقائه وفي مقدمتهم فريد شوقي، وهو يقول "أنا خلاص مش عايز فلوس أنا عايز أعيش"، وعارضت عائلته المكونة من والدته وشقيقاته الثلاث زواجه من ليلى فوزي، ما جعله يعتقد أن كل من يعارضه يريده عازباً وطامعاً في ثروته وأن عائلته تخاف أن ينجب ولداً يحجب عن شقيقاته الميراث، ولكنه في النهاية تزوجها في باريس. 

قلب يحمل الحب وكلى تحمل المرض

انتعش قلب أنور وجدي بالحب بعد زواجه من ليلى فوزي ولكن المرض كان يدب في كليته ويحرمه من المتعة الأولى في حياته وهي متعة الأكل، إذ كان يأكل بشراهة ويتلذذ بالتهام الطعام وهو يرتدي جلباباً أبيض مفتوح الصدر حتى لا تعوقه الملابس عن سرعة الأكل بيده بعد أن ينحي"الشوكة والسكينة" جانباً ويأكل بسرعة شديدة وكأن الطعام سوف يختفي من أمامه، وبعد أن عرف أنه مصاب بالكلى كان يتبع رجيماً قاسياً لأيام حرمه من متعة الأكل حتى أنه كان يشاهد العمال في الاستوديو وهم يأكلون سندوتشات الفول والطعمية ويغلبه التأثر ويبكي ويرمقهم بنظراته ويتمنى أن يصبح كأفقر واحد منهم يستطيع أن يأكل وأن يعمل بلا آلام أو حرمان.  

المشهد الثاني_ مستشفى دار الفؤاد 

سافر إلي باريس للعلاج وقيل أنه تلقى علاجاً خاطئاً أفسد علاج كليته وعاد من هناك إلي الاسكندرية ليقضي شهرين طريح الفراش وبجواره ليلى فوزي بعدها رجع إلي القاهرة يوماً يتركه المرض وأياماً يلازمه حتى اشتد عليه التعب ونقل إلي مستشفى دار الفؤاد، ولم تغادر ليلى فوزي سريره دقيقة واحدة وتلقى في نفسه الأمل وهي تقنعه أنه سيعيش، بينما شقيقات أنور بينهن وبين ليلى فوزي عدم استلطاف فقد عارضن زواجه منها بدعوى خوفهن على صحته، ومرت الأيام ثقيلة على قلبه وحالته الصحية في تدهور شديد حتى أن أحد الأطباء أخبر والدته وليلى فوزي أنه قد لا يعيش سوى عدة ساعات فأسرعت والدة أنور و "ليلى" لتجهيز المقبرة وتطوعت إحدى الشقيقات وأخبرته بأن والدته وليلى فوزي ذهبن بالأمس وفتحوا القبر لاستقبالك. 

الوصية

كان أنور وجدي يثق في ليلى فوزي وأنها لا تريد من الدنيا سوى أن يعيش، واستدعى محمود شافعي مدير أعماله وزوج إحدى شقيقاته وطلب منه عدة طلبات في شكل وصية منها وقف المفاوضات الدائرة حول بيع أفلامه والمعمل لأنه سيعود للعمل والسينما ولن يموت كما يقول الأطباء، وأن يحضر الشيخ ليقرأ القرأن كل يوم في شقته ولا تنقطع الاعانات للأسر الفقيرة. 

المشهد الأخير : القاهرة — السويد

تلقى أنور وجدي خطاباً من الأخصائيين في ستوكهولم قرأه محمود شافعي يحمل بين سطوره قبلة الحياة ما جعل أنور يقفز من فوق سريره وهو يردد بأعلى صوته "هعيش وهدفع كل اللي امتلكه وهرجع حي" في الوقت الذي كان فيه أكثر المتشائمين من الأطباء الذين يعالجونه هنا في القاهرة لا يصدق ما جاء في خطاب الأطباء السويديين وأن الموت أقرب له من النجاة ولكنه قرر السفر بحثاً عن الفرصة الأخيرة للحياة، وسافرت معه ليلى فوزي إلي ستوكهولم في طائرة خاصة ومعهم طبيبه الخاص "غليونجي" الذي عاد للقاهرة بعد أسبوع ومعه نبأ أن الموت يحوم حول فتى الشاشة الأول، ولم تمر سوى أيام وسكت صوت أنور الذي كان يردد "هعيش وارجع حي" بعد أن رفضت الحياة أن تبادله الصفقة وتقبل أن تأخذ كل ما يملكه مقابل أن تطرد الموت من فوق سريره، ومات في 14 مايو 1955 عن عمر ناهز 51 عاما وعادت به ليلى فوزي في تابوت، وكأنه ترك الموت في القاهرة فوجده ينتظره في السويد.