كانت حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مليئة بالمواقف الإنسانية المؤثرة التي تكشف عن رحمته العظيمة ورقته البالغة تجاه الناس والطبيعة من حوله.
في سيرته العطرة، وردت عدة مواقف جعلت النبي الكريم تدمع عيناه أو تذرف دموعه، تعبيراً عن مشاعره الجياشة وإنسانيته العميقة.
حياة النبي بعد الموت
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يعيش حياة برزخية تليق بمقامه الشريف، وهي أفضل من حياة الشهداء الذين أخبر الله عنهم أنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله، فلا يمكن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم يبكي بعد موته، إذ إنه في مقام رفيع لا يعادله مقام.
بكاؤه في حياته الدنيا
أما في حياته، فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة، حيث تأثرت مشاعره الجياشة تجاه أمته وأصحابه وحتى أعدائه، فقد كانت دموعه رمزاً لرحمته التي شملت كل من حوله.
بكاؤه رحمة لأمته
ورد في صحيح مسلم حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [إبراهيم:36]، وقول عيسى عليه السلام: "إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [المائدة:118].
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم أمتي أمتي" وبكى. فأرسل الله جبريل عليه السلام ليسأله: "ما يبكيك؟" فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله عز وجل: "يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك".
بكاؤه عند مرض أصحابه
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبكي لما يصيب أصحابه من المرض والبلاء شفقة عليهم. ففي حديث في البخاري، اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده في حالة مرض شديدة، فسأل: "قد قضى؟" فقالوا: "لا يا رسول الله"، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأى الصحابة بكاء النبي، بكى الجميع معه.
بكاؤه عند وفاة أحبائه
تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة عند وفاة أقربائه وأحبائه، ومن بين المواقف التي أبكته:
وفاة ابنه إبراهيم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وفاة عمه حمزة: بكى النبي بحرقة عندما رأى جثة عمه حمزة بعد استشهاده في غزوة أحد.
وفاة جعفر بن أبي طالب: عندما بلغه خبر استشهاد جعفر بن أبي طالب في معركة مؤتة، بكى النبي تأثراً بفقدان القائد الشجاع.
وفاة ابن إحدى بناته: عندما توفي حفيد النبي، أخذته الرحمة والرقة، وبكى على هذا الفقد.
بكاؤه عند خروجه من مكة
عندما أُجبر النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج من مكة، وقف على مشارفها وبكى قائلاً: "والله، إنك لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت".
كانت مكة أحب البلاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وخروجه منها كان من أشد المواقف التي أثرت في نفسه.
بكاؤه عند زيارة قبر أمه
زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه آمنة بنت وهب، وعندما وصل إليه بكى بحرقة، حتى أبكى من حوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، فزرته وبكيت وأبكيت من حولي" [رواه مسلم]. هذا المشهد يعكس تعلق النبي بأمه وحنينه إليها رغم الفراق الطويل.
بكاؤه في الصلاة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبكي في صلاته عند تلاوته لآيات القرآن، وخاصة الآيات التي تتحدث عن رحمة الله وعذابه.
في ليلة من الليالي، وقف النبي للصلاة وأخذ يقرأ القرآن ويبكي حتى تبللت لحيته الشريفة، وكان يكرر في دعائه: "اللهم إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم".
بكاؤه عند نزول آية
عندما نزلت آية: "لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [الأنفال: 68]، بكى النبي صلى الله عليه وسلم خشية من الله وتوبة.
وختاماً، تكشف المواقف التي أبكت النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن إنسانيته ورحمته العظيمة بأهله وأصحابه وأمته وحتى أعدائه؛ فدموع النبي كانت تفيض حباً ورحمة وخشوعاً لله، وهي تذكرنا بأهمية التراحم والتعاطف في حياتنا.